أخبار ||

الأدب الفلسطيني يؤرخ روح ومعنى القضية الفلسطينة: قراءة في قصيدة ” اعتقيني لوجه الله” للشاعرة الفلسطينية عالية الشاعر.

ظل الأدب الفلسطيني عبر تاريخه الطويل خيط المسبحة الذي ربط قضية العرب المركزية فلسطين بالعرب بشكل عام والفلسطينين بشكل خاص، ولم يتوقف هذا الأدب وهو يضخ الدماء في شريان القضية الفلسطينية وفي ضمير الفلسطيني الذي قدم رغم تغريبته نماذج أدبية أخذت مكانها على خارطة الأدب العالمي في إصرار على تاكيد الهوية الوجودية لأرضٍ وشعبٍ وقضيةٍ، فكانت أصوات غسان كنفاني وعبد الكريم الكرمي ومحمود درويش ومعين بسيسو وسيمح القاسم وراشد حسين – وغيرهم من الأسماء التي لايتسع مقال لذكرها – الرعيل الذي أسس لنوع جديد من الأدب في تاريخ الأدب العربي أطلق عليه ” أدب المقاومة” والذي مازال موروثاً ملتصقاً بذاكرة فلسطين، تتوارثه الأجيال جيل بعد جيل.
في قصيدتها ” اعتقيني لوجه الله” تشرع الشاعرة الفلسطينية عالية الشاعر ببث لواعجها لأمها التي تخاطبها وكأنها فلسطين، وفي تضادات هارمونية تجمع الشاعرة الشاعر انفعالاتها بين الحنين إلى الوطن الأم الذي مازال متقداً بها، وبين أمها التي ولدت في يافا في تناغم بين الدم والروح والتاريخ، معلنة على الملأ أنها خليط من تلك البوتقة التي لايمكنها الانعتقاء منها.
تقدم الشاعرة عالية الشاعر لقصيدتها بالقول: (أنا) ضمير المتكلم في هذه الابيات كناية عن (نحن) بمعنى مشاعر وأحاسيس جماعية تراود فئات ليست بالقليلة في مجتمعاتنا العربية على اختلاف مسميات بلدانهم، نتشاطر سويا ما ينتابنا من انفعالات، مع الإصرار على العودة الى فلسطيننا والتمنيات للمهاجرين العرب الذين لجؤوا من أوطانهم هرباً من النزاعات وشظف العيش بالعودة الى بلداننا العربية التي تضّجُ في دمنا الماً واملاً وعشقاً.
في ” أعتقيني لوجه الله” تعترف الشاعرة عالية الشاعر بذاك الحنين الذي يأسرها، وتعلن أنها غير قادرة على الانفكاك منه، كيف يمكنها ذلك وهي ابنة يافا وأبنة كل ذاك التراب، بل كيف بها أن تقطع حبلها السري الذي مازال يربطها بعروس المدائن وقضيتها فلسطين، فتعبر في خطاب افتراضي مع والدتها كلما داهمها واقع مايجري على أرض فلسطين.
عندما ينخر الحزن عظامي
أرى وجهكِ مقبلاً يواسيني 
من وراء الأفقٍ الباكي 
تسأليني: ماذا حلّ بكِ يا ابنتي
أقول لكِ: أما بالإمكانِ أن تفكِ أسري من فلسطينيتي 
أعلمُ انكِ تريدينَ لي ان أشدو كل صباح مع البلابلِ
ألا تسمعين ما يطلقهُ القناصُ على حنجرتي
قاتلاً في صوتي أغنيتي 
تعود الشاعرة الشاعر للإفصاح عن عشقها المرتبط بكينونتها كارتباطها بأمها التي غادرت وهي باقية في روحها وماعلمته لها من التصاق بفلسطين وهموم فلسطين التي أصبحت هماً عربياً عاجزاً عن فعل ماتستحقه ” عروس العروبة” في الوقت الذي مازال فيه القاتل يطلق الرصاص على حنجرة الشاعرة.
علّ الموت أنساكِ ما علمتني 
أن أكون أينما حللتُ ابنةَ قضيتي 
ليتكِ حينها أخبرتني أين السبيلُ عند ضعفي
للإتكاءِ على عصا عروبتي 
فلا أتعثرُ بالعجزِ في أمتي 
يا أمي هَبي اني طعنتُ مقتلاً في كرامتي 
فتجرعتُ قهراً أشدُ مرارةً من العلقمِ 
ثم تضورتُ جوعاً على جمرٍ من العَوزِ والضيمِ
حتى تفحَّمت الغصةُ في حلقي من الظلمِ 
تطرح الشاعرة عالية الشاعر تساؤلاتها حول ما آل إليه حال أمتها ملاذها الأول والأخير، بل وتطالب العالم بنداء إنساني لنصرة شجرة اجتثت من أرضها لترمى في الشتات، حيث تستحضر الشاعرة شاعر القضية الأكبر محمود درويش في قوله ” كل قلوب الناس جنسيتي فلتسقطوا عني جواز السفر”.
ما من قحطانٍ ، غسانٍ ،عدنانٍ 
أستجيرُ في مضاربهم من حُرقتي
هبي تمنيتُ أن أكون مواطنةً 
من كينيا ، بلجيكا ، بوليفيا او الصينِ
سِيَّانِ يا حبيبتي لا تعتبي 
ها قد لُفظَ المكلومُ الى الدركِ الأسفلِ 
يتلظى‏ وحيداً في نار يأسهِ 
يرددُ بين الفَينةِ والفينه شعر محمود درويش 
“كل قلوب الناس جنسيتي 
فلتسقطوا عني جواز السفر”
ليتَ هذا المبتغى في أحلامِ المبدعِ
يصبحُ مُطالاً هارباً من فضاءِ الشعرِ
كمَا الشهيقُ يعلو زفيرهُ دعاءً 
يستجيبُ لهُ ربُّ السمواتِ والارضِ 
يا أمي تصوري كيف كان شوقكِ الغائب ، الحاضرُ في روحي
ينكأُ جروحاً في قلبي 
نازفاً أسىً في خاطري 
تعود الشاعرة عالية الشاعر لتشيع روحها هناك حيث قريتها في يافا وهي تطل – كجسد – من جنوب لبنان، تنادي أمها التي ولدتها كما أمها – فلسطين – التي مازالت تشرع إليها الأمنيات للقاء بها..
وأنا أطّلُ يوماً من جنوبِ لبنان على شمالِ بلادي
فلا أستطيعُ أن أسَكّن أوجاعي 
بأعشابِ (خربثةَ الحارثية) قريتكِ
أشهدُ أن دروبها رافقتكِ في رحلة اغترابكِ 
فاختزلتْ خطواتُكِ من حنينكِ  
أطولَ الطرقاتِ في مدن الانهاكِ 
يا أمي داويني بحق الأنبياءِ 
من عشقٍ للعروبةِ أورثتنيهِ، أصابني بالداءِ
أعتقيني لوجه الله 
 من عبوديتي لما مضى من الأمجادِ
فلا يكّبلني بكائي على أطلالِ الأجدادِ 
تعود الشاعرة عالية الشاعرة لتشكو لأمها جرح عروبتها الممزوج بدمها، شارحة واقع النظام العربي الرسمي ومواقفه، ملقية لومها وعتابها اللطيف لأهل بيتها كنحلة تريد إيقاض الضمائر ليس إلا. وفي إسقاط تاريخي لصراعاتنا البينية تستحضر الشاعرة عالية الشاعر موقعة كربلاء حين كان القاتل والمقتول عربياً فكان ماكان..
يا أمي دعيني احومُ بين عواصمِ العالمِ
كنحلةٍ تلسعُ ضمائرَ حكامٍ 
غطوا سباتاً بين ردهاتِ القصورِ
عفتّ عقولهم عن التفكّرِ 
أن قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى 
بين السكونِ ولحظةِ الانفجارِ 
عجباً أهم حقاً أحياء، ام في عداد الأمواتِ؟!
لا عجَب ها هو شرقنا جلّهُ كربلاءُ 
يرعفُ آلاماً عند بوابات المسجد الأقصى وعتبات الحسينِ
يا أمي قولي لي إذاً، ما هو الفرقُ بين الدمِ والماءِ 
غطّى الأحمرُ القاني ما تبعثرَ من الأجسادِ مع الأشياءِ 
تشبهُ رائحتهُ حنطةً اختلطت بأنفاس الفقراءِ 
يا أمي أطلقِ سراحي من الضنكِ 
دعيني أمتصُّ من رحيقِ الزهرِ مذاقاً 
طعمهُ من المسكِ والكافورِ 
فلا تضنيني قسوةُ الشعورِ بالجورِ
وأنا انتظر أياماً عند بوابة العبورٍ 
أماهُ استودعيني عند الله يا حبيبتي 
ها قد عصفت رياحُ الرحيلِ
تعود الشاعرة عالية الشاعرة لتنث الأمل من بحار الألم في لواعجها الداخلية، وتعترف بواقعها في مهجر الفلسطيني و غربته وتغريبته، حيث مازال الدم يجري والجرح ينزف، ومن أرواح الأطفال الأبرياء التي تعانق السماء بطهرها ترى الشاعرة عالية الشاعر الأمل مشرعاً من تلك الأرواح البريئة التي تراها نداءً إلهياً يبشر بفجر ينبلج بالسلام والحرية.
ربما أنتهي غريقةً يلفظني البحرُ على شواطئ المهجرِ 
أو أرتمي صريعةً على قارعةِ الطريقِ 
من ذا الذي يلملمُ من مفترق غربتي
شجوناً نثرتها من وجدي 
رباهُ ما زلت اسمع في تربتي 
آهات الثكالى تُؤرّقُني 
تعكر علىَّ صفو موتي 
من ذا الذي يقرأ هويتي 
في قبرٍ جماعيّ ضمَّ رفاتي 
إلهي ها قد هلَّت عطاياكَ بالنعماءِ
كأني أسمع ضحكات الأطفالِ الانقياءِ
تعجُّ بها طبقات السماءِ 
تنقشعُ غيومُ الحقدِ والبغضاءِ
ينبلجُ الفجرُ ميقاتاً مشرقاً بالسلامِ والصفاءِ
_________________________

هامش: من هي والدة الشاعرة عالية الشاعر التي كانت تخاطبها القصيدة..؟

وفيقة حمدي الشاعر، من مواليد يافا، التحقت المناضلة وفيقة الشاعر، للدراسة في جامعة صوفيا، لتحصل على دبلوم الأدب الروسي، وتصبح ثاني امرأة عربية تحصل على هذه المرتبة العلمية الرفيعة في التخصص بعد كلثوم عودة، التي يتواجد ضريحها في مقبرة العظماء بالعاصمة الروسية موسكو. أما وفيقة الشاعر، والتي كانت صديقة شخصية لأول رائدة فضاء في العالم فالنتينا تيريشكوفا، فقد توفيت في موسكو، ودفنت في عمّان إلى جانب رفيق عمرها أبو وفيق العميد محمد الشاعر.

وحتى اليوم، لا زالت الخارجية الروسية تشهد انها كانت مع زوجها من أبرز الناشطين الدبلوماسيين، حيث تكللت أنشطتهم بأرفع مراتب النجاح في أداء مهمتهم، وترسيخ العلاقات السوفيتية العربية.

ومن مؤلفاتها كتاب نضال المرأة العربية على الصعيد العربي والدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.