أخبار ||

أي الجبهات ستفتح بعد حرب أوكرانيا وغزة؟

الكاتب: إبراهيم مقدادي/ كاتب وباحث أردني.

نتيجة الدراسة:

“إذا لم تنفتح جبهة غير متوقعة في مناطق أخرى من العالم، فمن المرجح أن أفغانستان ستكون الجبهة الثالثة بعد أوكرانيا وفلسطين بين كتلتي الشرق والغرب، وقد بدأت بوادرها بالفعل”

يعتبر “المنهج البراغماتي” من أقدم المناهج في مجال تحليل وتفسير القضايا والأحداث الدولية ولا سيما الساخنة والمتتالية، وما زال يحتل مكانة بارزة بين المناهج الأخرى الموجودة، وبشكل عام، لدى هذا المنهج مواقف عقلانية وتفسر وتشرح الوضع الحالي مع تقديم استشراف للمستقبل وفقا لمعطيات دقيقة ومؤشرات علمية مدروسة.

وفي منطق الواقعية العدوانية، فإن قاعدة عمل الحكومات هي تعظيم السلطة في نظام دولي فوضوي، وهو ما يحدد الهيمنة، لأن الطريقة الوحيدة للبقاء في مثل هذا النظام هي زيادة الحد الأقصى للسلطة على الآخرين، وتكمن جذور هذا التخوف في رغبة القوى العظمى التي تتمتع بقدرات عسكرية كبيرة في ضرب القوى الأخرى بعضها البعض، ونتيجة لذلك، تنعدم الثقة والشكوك بين الحكومات في أهداف ونوايا كل منها، ومن خلال زيادة قوتها، تعمل الحكومات على توسيع نطاق المصالح الوطنية وتسعى في النهاية إلى اكتساب موقع سلطوي مهيمن.

إن الهدف النهائي لكل قوة عظمى هو تعظيم حصتها من القوة العالمية، والسعي إلى الهيمنة بشكل أوسع ومستمر لتصبح القوة العظمى الوحيدة، مستخدمة كافة الوسائل والأساليب والأدوات المتاحة.

لذلك، في ظل حالة الفوضى الحالية التي يعيشها العالم – والتي تتجسد في انسحاب أمريكا من أفغانستان، والحرب المستمرة في أوكرانيا، والصراع في منطقة القوقاز (أرمينيا وأذربيجان)، واحتمال نشوب صراع بين طاجيكستان وقيرغيزستان، والأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط (غزة – إسرائيل) اتضح أن النظام الأمريكي الأحادي القطب يواجه تحديا كبيرا من قبل الكتلة الشرقية، الأمر الذي وضع العالم في حالة من الارتباك والفوضى.

إن السياسة الخارجية الأمريكية، التي استرشدت بمفهوم الهيمنة الليبرالية بهدف الهيمنة على العالم، كانت تقوم على افتراض استراتيجي مفاده بأن جميع أنحاء العالم لها أهمية أمنية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة، وبالتالي فإن الأمن العالمي لا بد أن ينضوي تحت مظلة الولايات المتحدة، ولكن مع صعود الصين وروسيا، لم تعد هذه القضية مقبولة بالنسبة لهم.

روسيا والصين وإيران، الذين يعتبرون أنفسهم تكتلا ضد أمريكا والغرب، اصطفوا ضد هذه القوى من خلال خلق استراتيجية التعددية، لذلك، ومع استراتيجية التعددية، بدأوا بإنشاء جبهات مختلفة لأمريكا من أجل تقصير المظلة الأمنية الأمريكية قدر الإمكان، وفرض تكاليف الحرب على الغرب بسبب دعم حلفائه في مناطق مختلفة من العالم، وبدأت هذه الاستراتيجية بالهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير/شباط 2021، ودخلت مرحلة جديدة مع الحرب الأخيرة بين حماس وإسرائيل.

والسؤال هنا يدور حو الاستراتيجية التالية، هل ستستمر مع إنشاء أي جبهة أخرى، وستفتح الكتلة الشرقية جبهة ثالثة ضد الولايات المتحدة؟ أم ستطلق الولايات المتحدة جبهة لكبح جماح الدول التي تنفذ هذه الاستراتيجية ضدها؟

تشير المعطيات إلى أن أفغانستان، الدولة التي مزقتها الحروب والتي تعاني من انقسامات عرقية واجتماعية عميقة، ونشاط استخباراتي للقوى الكبرى والإقليمية، قد أصبحت مرة أخرى مكانا لصراع القوى العظمى، تماما كما حدث في أفغانستان في السبعينيات والثمانينيات.

وانطلاقاً من سياسة إعادة التوازن أو التوازن عن بعد، تعتبر روسيا تهديدا جديا لأميركا، ولذلك، ومثل أسلافه، قام بايدن بصياغة مفهوم الاحتكار والاستثناء للولايات المتحدة بطريقة لا يكون لروسيا مكانا في المجتمع العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.

ولذلك فإن واشنطن، مع الوعي التاريخي بالحرب السوفييتية في أفغانستان في الثمانينيات وتبعاتها الأمنية على موسكو، ترى أن انتشار حالة عدم الاستقرار وانعدام الأمن من أفغانستان إلى دول آسيا الوسطى وتحريض المسلمين في شمال القوقاز الحالة المثلى لتقييد قوى الشرق (روسيا، الصين، إيران) وإشغالها.

من ناحية أخرى، تتجه استراتيجية روسيا ودول آسيا الوسطى نحو تغيير النهج تجاه طالبان والبدء بنوع من التفاعل معها من أجل التوصل إلى اتفاقيات لمنع انتشار التطرف في المنطقة، وتعلم هذه الدول جيدا أن طالبان والقاعدة وغيرهما من الجماعات المتطرفة تعتبر انسحاب أمريكا من أفغانستان أكثر من مجرد انتصار على قوة عظمى، وربما تسعى إلى توسيع نفوذها خارج هذا البلد، ولن تغلق حركة طالبان أراضي أفغانستان في وجه الجماعات العسكرية الأجنبية، كما أن استمرار علاقتها المتحالفة مع تنظيم القاعدة يضاعف من مخاوف دول آسيا الوسطى وروسيا.

وباستخدام هذه التهديدات، يمكن لأميركا أن تضع سياسة العودة إلى آسيا الوسطى على جدول الأعمال، وأن توسع مظلتها الأمنية مرة أخرى في المنطقة التي تعتبرها موسكو حديقتها الخلفية، وفي مثل هذا الوضع، وفي حالة دخول الإرهاب إلى آسيا الوسطى أو الشعور بخطورته، يمكن لأمريكا نشر بعض قواتها العسكرية في هذه المنطقة، وربما بناء قواعد عسكرية في بعض الدول مثل طاجيكستان وكازاخستان وأوزبكستان لزيادة قوة المناورة في هذه المنطقة تحت مظلة الاتفاق على مكافحة الإرهاب، وكانت واشنطن قد استخدمت في السابق الأراضي والمراكز العسكرية لبعض دول المنطقة في عمليات عسكرية عندما بدأت الحرب في أفغانستان عام 2001.

ومن الواضح أن روسيا تعتبر مثل هذه الحركات تهديدا كبيرا لها وتعارضها، ولذلك فإن سياسة أمريكا المتمثلة في احتواء صعود روسيا من بعيد تتسبب في تركيز موسكو الاستراتيجي في آسيا الوسطى، وبسبب أفغانستان ما بعد أمريكا، تواجه روسيا خطر تركز الجماعات الإرهابية بالقرب من حدودها، ومن ناحية أخرى، وجود أمريكا كمنافس رئيسي في المنطقة وفي ساحتها الخلفية، وعليه فإن تغير الوضع في أفغانستان بعد انسحاب القوات العسكرية الأمريكية أصبح يشكل تحديا خطيرا لروسيا.

إن انسحاب القوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي من أفغانستان يعتبر معضلة كبيرة بالنسبة لروسيا، ما يقلق موسكو هو أنها تعتبر دول آسيا الوسطى مجال نفوذها الطبيعي، ويجب أن تلعب دور ضمان الأمن لأولئك الذين لديهم حدود طويلة مع أفغانستان، في حين أن جمهوريات آسيا الوسطى حليفة لروسيا في إطار “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، وبناء على ذلك، إذا تعرضت إحدى هذه الدول لهجوم من قبل الجماعات الإرهابية، فإن روسيا ستكون ملتزمة بالتدخل، وهذا الوضع المتناقض يتعارض أيضاً مع نظرة موسكو المواجهة للغرب.

في أوائل التسعينيات، تم تكليف روسيا بتعزيز السلام في آسيا الوسطى، وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كانت مستعدة للتعاون مع أمريكا في إعادة إعمار أفغانستان، لكن موسكو اليوم لا تستطيع التوفيق بين طموحاتها في الهيمنة وموارد قوتها المتضائلة، ولذلك، فإن فراغ السلطة الجيوسياسي في أفغانستان ما بعد أمريكا، وانتشار عدم الاستقرار الناتج عنه إلى مجال النفوذ الطبيعي لروسيا، يدفع هذا البلد إلى الحد من توسعاته، من سوريا إلى القطب الشمالي، وأخذ آسيا الوسطى على محمل الجد، ونتيجة لهذا فإن استراتيجية تقليص المسؤوليات العسكرية الأميركية عبر الحدود في أفغانستان تؤدي إلى انخراط روسيا استراتيجياً في البيئة المحيطية وتمنعها من تحقيق أهداف الهيمنة.

وعلى هذا النحو فمن الواضح أن تركيز روسيا الأساسي على الأزمة الأفغانية ينصب في الأساس على مصالحها المهيمنة في آسيا الوسطى، ويتمثل التهديد المباشر الذي يواجه دول آسيا الوسطى في نمو الجماعات الإرهابية عبر الحدود في أفغانستان، وانتشار التطرف، والاتجار بالأسلحة والمخدرات، وإرسال اللاجئين والمهاجرين الأفغان.

وبهذه الطريقة، يمتد عدم الاستقرار والصراع والحرب الأهلية في أفغانستان إلى حدود روسيا عبر الدول المجاورة في المنطقة (أوزبكستان وتركمانستان وطاجيكستان)، وما يقلق موسكو هو أن المنطقتين الطاجيكية والأوزبكية في أفغانستان، اللتين تعتبران بمثابة حاجز في وجه طالبان، قد أصبحتا تحت سيطرة طالبان.

وبناء على ذلك، فإن موسكو، التي لم تعد لديها إمكانية التواجد العسكري في أفغانستان، تشعر بالقلق من وصول مقاتلين أفغان إلى دول آسيا الوسطى، خاصة طاجيكستان وأوزبكستان، الأمر الذي قد ينطوي على تهديدات إرهابية ويخلق كارثة إنسانية.

وبالإضافة إلى روسيا، فإن الوضع القائم في أفغانستان له أيضا تداعيات إقليمية، تستهدف دول الجوار، بما في ذلك إيران والصين، ومن الواضح أن واشنطن قامت بتقييم عواقب أفعالها وأدركت أن أفغانستان ما بعد أمريكا ستكون دولة غير مستقرة ومبتلاة بالأزمات، بل وعرضة للحرب الأهلية، والحقيقة أن أميركا، التي تدرك مدى ضعف أفغانستان والبيئة الإقليمية، أجرت حسابات استراتيجية لنتائج سياستها، ولذلك يمكن القول إن واشنطن لم تغب عن الإدارة الاستراتيجية للمنطقة بعد الانسحاب.

إن إخلاء أفغانستان من شأنه أن يسمح للولايات المتحدة بخوض مواجهة استراتيجية مع منافسيها الثلاثة دون صراع مباشر:

أولا، إيران، التي لديها تاريخ من المواجه مع طالبان بشأن قضية الدبلوماسيين الإيرانيين وأزمة حقوق المياه في نهر هلمند، وعمليات التهريب وغيرها، وخطر تزايد الإرهاب، بما في ذلك داعش وجيش العدل وغيرها، وهذا الموضوع بمثابة إنذار لطهران، ومن جهة أخرى، ستنخفض استراتيجية إيران وهيمنتها في الشرق الأوسط.

والثانية هي الصين، التي لن تحبذ وجود أفغانستان متطرفة في جوارها، إن الصين هي المنافس المهيمن لأميركا في منطقة آسيا والمحيط الهادئ والهندي، وعلى هذا الأساس، تحول أمريكا تركيزها من غرب آسيا إلى شرق آسيا بعد مغادرة أفغانستان، ومن ناحية أخرى، فإن تحول أفغانستان إلى التطرف في غرب آسيا من شأنه أن يقلل من تركيز الصين على شرق آسيا، وسوف تواجه تهديدات مثل حركة تركستان الشرقية، وتنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية من أفغانستان.

وثالثا، فإن روسيا هي المنافس القديم لأميركا، والتي تشعر بالتهديد بسبب الوضع الحالي في أفغانستان.

إن استعادة طالبان للسلطة وما يترتب على ذلك من تطرف في المنطقة، وخطر زيادة نفوذ التطرف في آسيا الوسطى وتعزيز علاقة طالبان مع الإسلاميين المتطرفين في هذه المنطقة وحتى مع مسلمي شمال القوقاز سيكون بمثابة خطر التهديد الاستراتيجي لروسيا، وهو منع الهيمنة.

وبعد هيمنة طالبان على أفغانستان، ستواجه المنطقة خطر تزايد الإرهاب المحتمل بأسماء تنظيم القاعدة، داعش، حركة طالبان الباكستانية، حركة تركستان الشرقية، حركة طالبان الإسلامية، وجيش العدل، وما إلى ذلك، وفي الوقت نفسه، ستكون روسيا هي الهدف الرئيسي وستكون الدول الأخرى في المنطقة أهدافًا.

خلاصة القول هي أنه إذا لم تنفتح الجبهة غير المتوقعة في مناطق أخرى من العالم، فمن المرجح أن أفغانستان ستكون الجبهة الثالثة بعد أوكرانيا وفلسطين بين كتلتي الشرق والغرب، وقد بدأت بوادرها بالفعل، ومن بينها يمكن أن نذكر عدم الاعتراف بحركة طالبان، ومحاولة روسيا وإيران زيادة النفوذ في صفوف طالبان، ومقتل زعيم تنظيم القاعدة في قلب كابول، وهجمات داعش على آسيا الوسطى، الهجوم الانتحاري لجيش العدل على مركز الشرطة الإيراني، ومؤخرا على مدينة كرمان الإيرانية، وتوسيع هجمات حركة طالبان الباكستانية على باكستان، وما إلى ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.