أخبار ||

الشكوى ضد إسرائيل ..  الأهداف والسمات والنتائج.

الكاتب: إبراهيم المقدادي/ كاتب وباحث أردني

ماهية الشكوى

على خلفية الشكوى التي قدمتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بتهمة “ارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة”، أصدرت محكمة العدل الدولية يوم الجمعة الموافق 26 يناير 2024م، حكمها الخاص بشأن هذه الشكوى، وضرورة اتخاذ إجراءات سريعة ضد إسرائيل، ووفقا لهذا الحكم، ثمة أدلة على ارتكاب تل أبيب إبادة جماعية في غزة؛ ولذلك رفضت المحكمة طلب إسرائيل بإلغاء الشكوى.

وحاول محامو إسرائيل وأحدهم بريطاني منع إدانتها لقتلهم النساء والأطفال والشعب الفلسطيني الأعزل، وتبرير جرائمها في غزة من نافذة أن ذلك دفاع مشروع عن النفس، لمنع ملاحقة الحكومة الإسرائيلية، غير أن المحكمة أصدرت قرارها في هذه الدعوى، وهو الرأي الذي وافقت عليه مختلف الدول، وخاصة إيران والمملكة العربية السعودية وغيرها من الدول الإسلامية.

وتعتبر مثل هذه الشكوى من المرات القليلة التي تشق طريقها إلى محكمة لاهاي الدولية ضد إسرائيل، حيث نجحت في تحويل ما كان مجرّد أحاديث في بداية الحرب إلى مبعث قلق حقيقي للحكومة الإسرائيلية، والذي تجلى بشكل واضح في تصريحات أطلقها عدد من المسؤولين الإسرائيليين وعلى رأسهم رئيس وزراء بنيامين نتيناهو، حيث اعتبر رغم كل ما قام به الجيش الإسرائيلي من جرائم لم تنتهِ حتى اليوم في غزّة، أن الادعاء على حكومته هو دليل على نالفاق، كما صدرت تصريحات من المعارضة الإسرائيلية أيضا، مثل يائير لابيد، تعبّر عن القلق أيضا مما يحصل في محكمة لاهاي.

وأعدّت جنوب أفريقيا، بالتعاون مع السلطة الفلسطينية ملفّا قانونيًا ضخمًا يوضح كيف خرقت إسرائيل القوانين الدولية بممارساتها الاإنسانية في غزّة، حيث يركّز هذا الملف على اتهام إسرائيل بالقيام بجرائم تصل إلى الإبادة الجماعية ضد سكان غزّة.

وتسعى جنوب أفريقيا من خلال دعوتها للحصول على أمر من أعلى هيئة قضائية أممية بالتعليق الفوري للعمليّات العسكرية في غزّة، وهو ما شُرح أسبابه الموجبة من خلال 84 صفحة.

وجاء في ذلك أنّ إسرائيل تهدف إلى تدمير جزء كبير من الجماعة الوطنية والعرقية والإثنية الفلسطينية، في حين اتهمت إسرائيل جنوب أفريقيا بأنها سخّرت نفسها كذراع قضائي لصالح حركة حماس.

انتهاكات إسرائيلية

وبحسب فريق هذه المحكمة، تشير المعلومات إلى مقتل أكثر من 25 ألف فلسطيني وتهجير أكثر من مليوني شخص خلال الحرب، والشعب الفلسطيني كغيره تحت الحماية بموجب اتفاقية حظر القتل الجماعي، وعلى إسرائيل اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع جرائم القتل ضد الشعب الفلسطيني، ويجب على إسرائيل أيضا ضمان عدم قيام قواتها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية واتخاذ الإجراءات اللازمة لتحسين الوضع الإنساني في غزة.

وتلت رئيسة محكمة العدل الدولية في لاهاي، جوان دوناهيو، الحكم الأولي لهذه المحكمة وقالت: إن هذه المحكمة تدرك المأساة الحالية في غزة وتدين القتل المستمر هناك.

محكمة العدل الدولية، والمعروفة أيضًا باسم محكمة لاهاي، هي إحدى الأجهزة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، ويقع مقرها الرئيسي في هولندا، ووفقا للنظام الأساسي، تتمتع هذه المحكمة بسلطتين خاصتين؛ التعامل مع المنازعات القانونية بين الدول وغيرها من الجهات الفاعلة في القانون الدولي، وهو ما يسمى “اختصاص التحكيم”، فضلاً عن تقديم الآراء الاستشارية ردا على الأسئلة القانونية للمنظمات الدولية، ووكالات الأمم المتحدة المتخصصة، والجمعية العامة للأمم المتحدة.

وبناء على ذلك، قدمت جنوب أفريقيا، مستشهدة بالمادة 9 من اتفاقية الإبادة الجماعية كأساس لاختصاص المحكمة للنظر في هذه القضية، شكوى ضد حكومة إسرائيل في المحكمة لأول مرة، وأكدت المحكمة اختصاصها بنظر هذه القضية، وأصدرت قراراً يؤكد مصداقية جنوب أفريقيا بشأن الإبادة الجماعية في غزة.

وبما أن قرارات محكمة العدل الدولية، بحسب النظام الأساسي، ملزمة ونهائية، وتعطي صاحب العلاقة الحق في تقديم شكوى إلى مجلس الأمن، فإن هذه المسألة مهمة من أبعاد مختلفة.

والآن يجب على إسرائيل تقديم تقرير إلى المحكمة، وأكدت رئيسة محكمة العدل الدولية: أن شروط اعتماد التدابير المؤقتة متوفرة، ويجب على إسرائيل أن تتخذ جميع التدابير اللازمة لمنع القتل الجماعي والإبادة الجماعية في غزة.

 

إدانة إسرائيل

ويجب عليها أيضا أن تتخذ على الفور إجراءات لمنع الدمار والخراب في غزة وأن تقدم تقريرا إلى المحكمة بشأن جميع التدابير المؤقتة خلال شهر واحد.

بلا شك إن رأي المحكمة بشأن شكوى جنوب أفريقيا ليس حكما، بل أمر مؤقت لمنع الوضع في غزة من أن يصبح أكثر خطورة، وهذا الأمر يهدف إلى منع تسهيل الأزمة، وهو نوع من الأمر للطرفين، وخاصة إسرائيل، لمنع تصعيد الصراع.

بداية، أثبت هذا الحكم التهم المتعلقة بالقتل الجماعي للشعب الفلسطيني على يد إسرائيل، وطالب إسرائيل برفع الحصار عن قطاع غزة والوفاء بالتزاماته في إطار القانون الدولي، وضرورة امتناع إسرائيل عن الإبادة الجماعية، ووفقا لهذا القرار، يجب تجنب الأعمال التي تنتهك حقوق الإنسان وقوانين الحرب وتعتبر شكلاً من أشكال الإبادة الجماعية، وبالتالي يجب على إسرائيل التوقف عن تهجير وترحيل سكان غزة والإضرار بالأطفال والمدنيين.

ولذلك فإن الأمور المذكورة في الحكم هي لمنع تفاقم الوضع، وبما أن هناك احتمال حدوث إبادة جماعية، فيجب على إسرائيل الامتناع عن مثل هذه الأعمال.

ومن ناحية أخرى، يمكن اعتبار قرار محكمة العدل الدولية بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة سابقة مهمة في مجال التعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان أثناء الحروب، ويبين هذا القرار أن محكمة لاهاي، يمكنها التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان أثناء الحروب والمطالبة بوقف هذه الانتهاكات.

 

السمات والأهداف

كما يظهر هذا القرار أن المجتمع الدولي يأخذ انتهاكات حقوق الإنسان أثناء الحروب على محمل الجد، وحتى الأنظمة المؤثرة التي تحظى بدعم إعلامي دولي وشامل، مثل إسرائيل، لا يمكنها الهروب من عواقب أفعالها اللاإنسانية إلى الأبد، بل على العكس من ذلك، فإن إصدار هذا الرأي يعطي الأمل للفلسطينيين وغيرهم من ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان بأن المجتمع الدولي سيدعمهم.

وأهم أثر لهذا الحكم هو فقدان إسرائيل القوة الناعمة والسمعة والمصداقية الدولية، التي حاول اللوبي الصهيوني القوي في تلك السنوات توفيرها لهذا النظام من خلال التأثير على وسائل الإعلام وصناعة السينما والتلفزيون، وجعلها ضحية بالترويج لمظلوميتها وأنها داعمة للديمقراطية وحقوق الإنسان.

والآن، فإن قرار المحكمة لم يدمر صورة ومصداقية إسرائيل باعتبارها تمارس الإبادة الجماعية فحسب، بل يزيد عبثها من تكلفة حلفائها الغربيين وتتحول إلى عبء ثقيلا عليها.

وبناء على ذلك، لا بد من القول إن إسرائيل تمت محاكمتها في محكمة الإبادة الجماعية الدولية قبل ساعات قليلة من “ذكرى المحرقة”، فهي هزيمة ثقيلة لهذا الكيان وانتصار كبير للشعب الفلسطيني المظلوم.

 

التداعيات على إسرائيل

وعلى الرغم من نقاط القوة المذكورة أعلاه، يبدو أن حكم المحكمة كان متحفظا إلى حد ما في بعض جوانبه؛ فبالنظر إلى الحكم السابق لمحكمة لاهاي في قضية شكوى أوكرانيا ضد روسيا عام 2022، والذي أعلن فيه قضاة المحكمة في حكمهم أن “روسيا ملزمة بإنهاء جميع عملياتها العسكرية على الفور في أوكرانيا”، ومن ثم إصدار حكم مؤقت بشأن حرب غزة قبل إصدار الحكم الرئيسي، وأن تأمر إسرائيل بتعليق عملياتها العسكرية في غزة وضدها، ومع ذلك، لا يوجد أي أثر لمثل هذا الحكم في أمر المحكمة المؤقت، وينص فقط على أنه يجب على إسرائيل ضمان عدم قيام قواتها بارتكاب أعمال إبادة جماعية واتخاذ إجراءات لتحسين الوضع الإنساني للفلسطينيين المحاصرين.

ويظهر مثل هذا الحكم المؤقت أن تأثير إسرائيل في المؤسسات الدولية لا يزال على مستوى عال، ويبدو أن الفريق القانوني لهذا الكيان تمكن أيضًا من إقناع قضاة هذه المحكمة بأن العمليات العسكرية التي يقوم بها هذا النظام ضد حماس وأهل غزة مبررون بصيغة “الدفاع المشروع” مقبول وضروري!

والآن، من الناحية القانونية، فإن الخطوة التالية بعد إعلان حكم محكمة العدل الدولية هي أن يرسل الأمين العام للأمم المتحدة تعليماته إلى مجلس الأمن بموجب نظام محكمة لاهاي الأساسي.

ورغم أنه لا يخفى على أحد أن الدعم الأميركي في مجلس الأمن لإسرائيل، كما حال دون وقف إطلاق النار وإنهاء هذه الحرب المدمرة، ربما يحول دون فرض ضغوط جدية على هذا الكيان، إلا أن الخلاف بين الطرفين إي الولايات المتحدة والسلطات الإسرائيلية بشأن حل الدولتين لإنهاء هذه الأزمة وقلق بايدن بشأن ضغوط الرأي العام عشية الانتخابات الرئاسية في هذا البلد وتكاليف الدفاع عن نظام الإبادة الجماعية، كلها عوامل يمكن أن تضعف القرار الحاسم، ولكن قد يتحول دعم الولايات المتحدة لإسرائيل إلى اجبارها على الانصياع لقواعد القانون الدولي.

من ناحية أخرى، فإن حكم محكمة لاهاي ضد إسرائيل يمكّن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية (التي تتناول الجرائم الدولية للأفراد وموظفي الدولة) من اتخاذ إجراءات ضد كبار المسؤولين في حكومة نتنياهو؛ لذلك، وعلى الرغم من النزعة المحافظة القائمة، يبدو أن قرار المحكمة يمثل قضية مؤثرة ويمكن أن يكون حجر الزاوية والأساس لإجراءات قانونية جديدة ضد إسرائيل.

 

إسرائيل ليست ممنوعة من استمرار الحرب

أن المتوقع كان أن المحكمة ستطلب من إسرائيل وقف الحرب، إلا أن الحكم لم ينص على عدم استمرار إسرائيل في الحرب، لأن قرار المحكمة كان مرتبطا بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب، وبطبيعة الحال، فإن قرار المحكمة هذا ليس بأي حال من الأحوال القرار النهائي، بل من المرجح أن يتم الإعلان عن القرار النهائي لمحكمة العدل الدولية خلال 3-4 سنوات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.