أخبار ||

النص الكامل للمؤتمر الصحفي للدكتور قدري جميل…

عقد الدكتور قدري جميل، أمين حزب الإرادة الشعبية ورئيس منصة موسكو للمعارضة السورية، مؤتمراً صحفياً، الإثنين 4 آذار 2024، تحدث فيه عن مسار الحلّ السياسي في سورية، ومركّزاً على الضرورة السياسية لنقل أعمال اللجنة الدستورية إلى دمشق. استضافت المؤتمر وكالة ريا نوفوستي الروسية في موسكو. وفيما يلي نَصّه الكامل.

 

شكراً على الدعوة. منذ عام ونصف تقريباً كان آخر مؤتمر صحفي لي هنا. نحن لا نحبّ الظهور عبر الإعلام إلا عندما يكون لدينا شيء للحديث عنه. لا نظهر من أجل الظهور، نظهر عندما تتطلب الأوضاع للتعبير عن موقفنا فيما يخص التغييرات الجارية. خلال العام السابق، بسبب الوضع الدولي والوضع الإقليمي، كان هنالك شبه جمود، إذا لم نقل جموداً كاملاً، للملف السوري. لذلك لم يكن هناك شيءٌ جِدِّيٌّ ليُحكى. تمنّعنا عن الظهور وحتى لم أقم بتصريحات. الآن أعتقد أنّه آن الأوان كي نتكلّم.

 

إشارة هامّة في البداية

قبل أن أبدأ بالحديث عن الملف السوري أريد الإشارة إلى قضية هامّة لها علاقة مباشرة بالملف السوريّ ولها تأثيرٌ عليه، وسيكون لها تأثيرٌ أكبر لاحقاً. هذه القضية هي الملفّ الفلسطيني ومواجهة العدوان «الإسرائيلي» الجاري حالياً في فلسطين، وفي غزة تحديداً. أردتُ الإشارة إلى اجتماع الفصائل الفلسطينية جميعها في موسكو، وصدور بيانها الختاميّ في الأوّل من آذار. ربّما لم يتوقف البعض كثيراً عند هذا الموضوع، لكن بالنسبة لنا له أهميةٌ كبرى، لأننا نعرف الخلفية؛ الفصائل الفلسطينية منقسمة، لا أريد التحدّث عن الانقسام… نحن نؤيّد تجاوزه لأنّ هذا الانقسام حجّةٌ أساسية يستخدمها العدوّ «الإسرائيلي» من أجل استمرار انتهاكه للقوانين الدولية، والعدوان والجرائم ضدّ الإنسانية التي يرتكبها. الذي أريدُ قولَهُ هو أنّ هذا الاجتماع في موسكو له دلالة كبرى؛ أوّلاً، لأنه في موسكو. ثانياً، لأنّ جميع الفصائل صاحبة العلاقة والتي بينها بعض الخلافات الجِدّية لم تستطع الاجتماع والتواصل المباشر خلال السنوات الماضية. روسيا بذلت جهداً كبيراً لتوحيد الصف الفلسطيني، وأوّل خطوة ناجحة في هذا الاتجاه هو الاجتماع الذي جرى في موسكو. صدرَ بيانٌ ختاميّ في الأوّل من آذار. لماذا هو هامّ؟ لأنّ هذه كانت المحاولة الثالثة لجمع الفصائل، وسبق ذلك محاولتان لجمعها في موسكو ولم تنجحا. لكن بالإصرار والصبر والإرادة السياسية في تحقيق هذا الهدف تمّ تحقيقه. وأهمّ ما صدر في البيان الختامي الذي أدعو إلى قراءته بتمعّن – أنا أعتقد من وجهة نظري أنّ أهمّ ما صدر فيه هو مقدّمته التي تقول بشكلٍ واضح – بعد التعبير عن الشكر والتقدير للقيادة الروسية في دعمها للقضية الفلسطينية… إلخ – تقول: «اتفقت»، يعني جميع الفصائل، حماس والجهاد وفتح والجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية والمبادرة الوطنية الفلسطينية وفصائل أخرى عددها 12… اتفقت في موسكو «على أنّ اجتماعاتها ستستمر في جولات حواريّة قادمة للوصول إلى وحدة وطنية شاملة تضمّ القوى والفصائل الفلسطينية في إطار منظّمة التحرير الفلسطينية، الممثّل الشرعيّ والوحيد للشعب الفلسطيني». هذا التقدّم كبير، حتى يمكن أنْ أسمّيه اختراقاً، سيضع الأساس الصحيح والمتين للتقدّم اللاحق الذي يجري. لقد بذلت جهود قد لا تقلّ عن الجهود التي بذلت سابقاً. لماذا آتي بهذا المثال؟ لأنّنا نحن السوريون لنا القصة نفسها… حاولنا أنْ نجتمعَ في «موسكو1» وفي «موسكو2»، معارضةً ونظام، وكل ما أسفر عنه هذان الاجتماعان، اللذان كانا هامَّين بمجرّد انعقادهما… أتدرون؟ وربما هذه أول مرة أتحدّث عن ذلك: انحلّت مشكلة جوازات سفر السوريين الموجودين في الخارج بعد أن كان صعباً جداً الحصول على جواز سفر. الحصول عليه الآن صعب أيضاً لأنه غالٍ يكلّف الكثير من الرسوم بالنسبة للسوريين… هذا ما استطاعت اجتماعات «موسكو1» و«موسكو2» تحقيقه… رغم أنّ مهمّتها عمليّاً كانت بدء الحوار المباشر بين المعارضة والنظام. ما جرى في موسكو1 و2 هو «ميني حوار» بين المعارضة والنظام؛ حوار مُصغَّر لم يؤدِّ عمليّاً إلى تقدّم. جاء بعده سوتشي الذي أنتجَ اللّجنة الدستورية. واللّجنة الدستورية عقدتْ إلى الآن ثمانية اجتماعات مجموع أيّام عملها 26 يوماً، عدد ساعات العمل الفعلي للّجنة خلال الفترة الممتدّة من 2019 إلى 2021 كان 100 ساعة، تكلفتها من الأمم المتحدة عمليّاً سنويّاً 10 ملايين دولار، بمعنى أنّ تكلفة عمل الساعة 200000 دولار. وماذا أنتجت؟ صفر! اليوم هناك مشكلة غير أنّ ماضيها لا يسمح بالقول إنها حققت أي شيء.

 

ما معنى التخبّط حول مكان اجتماعات اللجنة الدستورية؟

المشكلة اليوم مكان انعقاد هذه اللجنة. فبعد بدء العملية الخاصة في أوكرانيا أخذت روسيا الاتحادية موقفاً – مفهوماً بالنسبة إليّ – بأنّ سويسرا لم تعد بلداً محايداً، وأنّ روسيا غير مستعدة للذهاب إلى نشاطاتٍ للأمم المتحدة في سويسرا. لذلك فالروس غير موافقين على الذهاب إلى جنيف، وهذا غير ممكن، لأنهم يعامَلون معاملةً سيّئة من قبل السلطات السويسرية… الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة غير بيدرسون حاول حلّ هذا الإشكال لأنّ اللجنة الدستورية لم تجتمع منذ فترة طويلة، فتقدَّمَ باقتراحٍ لم يُعلَن ولكنْ أُعلِمنا به؛ هل تعرفون أين اقترحَ أنْ تذهب اللجنة الدستورية السورية؟ إلى نيروبي (إلى كينيا) وبالطرف المقابل جرت اقتراحات أخرى منها أن تذهبَ إلى بغداد. وبنهاية المطاف أرسل بيدرسون منذ أيام رسالةً رسميةً إلى الطرفين – إلى هيئة التفاوض التي نحن جزءٌ منها كمنصّة موسكو وإلى الحكومة السورية – يقترح عقد لقاءٍ للجنة الدستورية في جنيف. ومن الواضح الآن أنه بعد التخبط بين نيروبي وبغداد فإنّ اقتراحه بالذهاب لجنيف هو اقتراحٌ شكليّ؛ لأنه يعرف أنه صعبٌ أن ينجَز وأنْ يطبَّقَ هذا الاقتراح. من جهتنا نرى أنّ عقد الاجتماع في جنيف غير ممكن عملياً، لأنّ وفد الحكومة السورية (الوفد المدعوم من الحكومة السورية) حسب ما يُخَيَّل إليّ لن يوافق على الذهاب إلى جنيف، والإعلام يشير إلى ذلك بطرفٍ خفيّ. إنّ اقتراح جنيف هدفه إحراجُ روسيا، وبما أنّ الحكومة السورية متضامنة مع روسيا فهي لن تذهب إلى جنيف، مع أنّني أعرف أنّ الروس لم يقولوا للحكومة السورية: لا تذهبي إلى جنيف. لذلك بالنسبة للحكومة السورية فإنّ موضوع جنيف يشبه ما يقال لدينا [مثل شعبي]: «مو رايح عالصلاة لأن الجامع مسكّر». لذلك، وفيما يخصّنا نحن، ورغم أننا نعرف أنّ اقتراح جنيف هو «طبخة» لن تنضج وبالعاميّة لدينا يسمّونها «طبخة بَحْص»، تلقّتْ هيئة التفاوض اقتراح بيدرسون وتنتظر جواب منصة موسكو من أجل إرسال جوابها النهائي إليه كهيئة تفاوض مؤلَّفة من ثلاث منصّات (منصة موسكو ومنصة القاهرة ومنصة الرياض) حسب القرار 2254.

 

موافقون على جنيف كمبادرة حسن نيّة

والآن أنا مخوَّل أنْ أقولَ وأُعلِن أنّ منصة موسكو موافقة على أنْ تذهب إلى جنيف مع كلّ قناعاتنا التي عبّرتُ عنها قبل قليل بأنّ الموضوع «طبخة بَحْص». ويجب البحث عن طرقٍ جدّية وفعّالة من أجل تفعيل اللجنة الدستورية. فماذا يعني هذا التخبّط الذي نراه أمامنا فيما يخصّ اللجنة الدستورية بين نيروبي وبغداد وجنيف؟ يعني الأمور التالية: أولاً، يعني عمليّاً تجميد المسار السياسي السوري. الشعب السوري يعاني وسنتكلّم عن معاناته بعد قليل. عانى من الحرب والرصاص، واليوم يعاني من الجوع والبرد ومستوى المعيشة. المقصود من تجميد مسار جنيف – الذي كان مجرّد غرفة إنعاش مركَّز للعمليّة السياسية، في وقت كان هنالك خطر عليها، ومؤتمر الحوار في «سوتشي» لعب دور إيجابيّاً في هذا الموضوع بإبقاء العملية السياسية قيد الحياة عبر اللجنة الدستورية – المقصود عبر دفن اللجنة لدستورية أنّ البعض يريد دفن العملية السياسية ودفن 2254، والغرب تحديداً وافق على 2254 وندم على موافقته. وموقفُه من القرار 2254 أقارِنُهُ وأشبِّهُهُ بموقفهم من اتفاقيات مينسك؛ وافقوا عليها وعرقلوا تنفيذها. القرار 2254 اضطروا أن يوافقوا عليه في مجلس الأمن ويعرقلون تنفيذَه حتى هذه اللّحظة، لا يريدون تنفيذه. لماذا لا يريدون تنفيذه؟ لأنّه نشأ واقع جديد في سورية بعد الأزمة؛ سورية فعليّاً كأمرٍ واقع تقسَّمت إلى ثلاث مناطق. استمرار حالة التقسيم يحوّل هذا الأمر الواقع إلى أمرٍ مُستدام حسب رغبتهم وحسب ما يريدون؛ تقسيم de facto (تقسيم الأمر الواقع) يمكن مع الوقت أن يتحول شيئاً فشيئاً إلى تقسيم نهائيّ.

 

لماذا يحاولون دفن العملية السياسية؟

ماذا يريدون من دفن العملية السياسية؟ استمرار النزوح السوري والتهجير. الأرقام اليوم صادمة؛ اليوم خارج سورية أعدادٌ كبيرة من السوريين. أعلى عدد في تركيا 3 مليون سوري، في لبنان نحو المليون (أقلّ أو أكثر)، في أوروبا وألمانيا تحت المليون، الحصة الأكبر لألمانيا، في الأردن 600 ألف، في مصر 400 ألف. بحساب مجموع هؤلاء يبلغون نحو 7 ملايين (7 ملايين سوري من أصل 23 مليون). وإذا أضفنا إليهم عدد المهجرين داخلياً بشمال غربي سورية – حيث كان عدد السكان عمليّاً لا يتجاوز المليون ونصف في الأحوال العادية – نجد اليوم حسب أعلى الأرقام 4 ملايين في الشمال الشرقي و3 ملايين بالغربي، ولن آخذ أعلى الأرقام، وسأقول 3 و2 مليون [على التوالي]، يشكّلون خمسة ملايين، زائداً سبعة ملايين في الخارج، صار المجموع 12، ونطرحهم من 23 يبقى لدينا في المناطق التي تديرها الحكومة للسورية 10 إلى 11 مليوناً. هكذا حال السوريين؛ عدم الذهاب خطواتٍ ولو صغيرة باتّجاه الحلّ السياسي يعني استدامةَ الأزمة، يعني استمرارَ نزوح السوريين. وتوجد ملاحظة هنا؛ بالنسبة لنزوح السوريين سابقاً خلال الفترة الأولى من الأزمة قبل أنْ يسري نظام التهدئة – التي لعبت دول أستانا دوراً هامّاً في إقامته وتثبيته – كان التهجير والنزوح يجري بسبب الرصاص، لكنّ هذه العملية لم تتوقف اليوم، رغم توقف الرصاص نسبياً، فهذه العملية مستمرة بسبب الأوضاع الاقتصادية المعاشية.

 

المخطط الصهيوني لسورية

الوضع الاقتصادي المعاشي مريعٌ ومأساويّ وكارثيّ. أكثر السوريين لا يرون سبلاً للعيش في سورية، ويبحثون عن طرق للخروج. لذلك يتدفق المهجرون والنازحون من البلاد، الراغبون في النزوح كثيرون والقادرون عليه أقلّ. يجري تجريف سورية من سكّانها. وأنا أعرف المخطط الصهيوني «الإسرائيلي» القديم؛ إلغاء الدور الوظيفي لسورية عبر عاملَين: تقسيمها وتجريف سكّانها. هذا العاملان يفعلان فعلهما، ولكنهما لم يصلا إلى نقطة اللاعودة بعد. أي إنّ التقسيم إلى الآن ليس نهائيّاً. يمكن استعادة وحدة سورية، لأنها إلى الآن دولةٌ معترفٌ بها في الأمم المتحدة معروفةٌ حدودها الجغرافية. وأعتقد أنّ تحسُّنَ الأوضاع في سورية سوف يعيد الكثير من السوريين، حيث يفضلون ذلك على أن يعيشوا بالمخيمات في الشتات، فيعودون إلى أراضيهم وأماكنهم. هذا يعني أنّ انتهاء الأزمة السورية ضرورة حيوية؛ ضرورة حيوية للسوريين ولسورية. إذاً، يجب كسر هذه العقدة – عقدة جمود الحل السياسي. وكيف نكسرها؟ عندما أخرج وأتكلم عبر الإعلام ترِدُنا كثير من التعليقات تقول عَنّا: «شاطرين بالحكي» وليس عندكم حلول، تفضّلوا قدموا لنا حلولاً وكفى كلاماً فهذا كلّه نعرفه. إنّ المهمة رقم واحد الآن كما أعتقد هي كسر جمود مسار الحل السياسي، والغرب الجماعي له مصلحة بهذا الجمود، لأنّ تنفيذ المخطط الصهيوني لا يريد سورية؛ عنده برنامج حدّ أعلى وبرنامج حد أدنى؛ برنامج الحد الأدنى إلغاء دور سورية الوظيفي، وبرنامج الحدّ الأعلى إلغاؤها [إلغاء سورية كلّها]. نحن عند برنامج الحد الأدنى الذي لم يصل بعد إلى نقطة اللاعودة. فهل سيجد السوريون بمختلف المشارب والاتجاهات القوّةَ حتى يحافظوا على شعب سورية وسورية في هذه اللحظة الحرجة؟ لذلك نحن نتقدّم بأفكارٍ واقتراحات، ونطلب من الجميع أن يفكّروا فيها بعمق.

 

الأهمّ بدء تنفيذ 2254 ويجب المجيء إلى دمشق

أهمّ شيء هو بدء تنفيذ 2254. البعض يقولون عنه «قديم ولم يعد يشتغل ولم يعد منه فائدة». هذا منطق الذين ابتدأوا الأزمة وما زالت عقليّتهم مستمرّة ضمن عقليّةِ «إسقاط النظام» من طرف المعارضة، و«سحق المعارضة» من طرف النظام. نحنُ منذ اللحظة الأولى في 2011 قلنا إنّ هذا غير ممكن وذاك غير ممكن، والحل هو التوافق، لأنه بغير ذلك ستذهب سورية والسوريون ضحية هذا الصراع، لأنه ليس هنالك طرف قادر على تحقيق انتصار حاسم لأسباب عديدة، خارجية وداخلية. وصدَّقَ التاريخُ صحَّة توقّعنا. أفلا تسمح 10 سنوات من التجربة، وألا تتطلب، إعادة النظر بالمواقف ومراجعتها وإعادة تقييمها؟ لذلك نقول إنّ لدينا حلَّين يجب البدء بهما فوراً إذا كنا نريد فعلاً حلّ الأزمة السورية، أو أن نسير في طريق حلّها: الحلّ الأول هو نقل أعمال اللجنة الدستورية إلى دمشق برعاية الأمم المتحدة وبضماناتٍ أمنية من مجموعة أستانا. الذهاب إلى دمشق لا يعني إخراج العملية الدستورية من رعاية الأمم المتحدة، فحيثما تضع الأمم المتحدة عَلَمَها يصير هناك أمم متحدة. البعض يعترض على اقتراحنا ويقولون صعبة عملية «الذهاب إلى الشام». لماذا صعبة؟ يقولون: أمنيّاً، فلدينا أمثلة على معارضين ذهبوا واختفوا. حَسناً، نقول لكم تذهبون بحماية وضمانة الأمم المتحدة ودول أستانا الموجودة على الأرض. ثمّ ألا يستحقُّ الشعب السوري على الأقلّ المخاطرة بهذا الموضوع من أجل مصلحته؟ ألهذه الدرجة أنتم خوَّافون؟! الحجّة الثانية التي تُساق، وقد سمعتها اليوم من أحد المسؤولين بهيئة التفاوض: «لا نستطيع… هناك أناسٌ كثر إذا قلنا لهم إننا سنذهب إلى دمشق يخوِّنونا، يسمّوننا خونة». أنا أعتقد أنّ القادة الحقيقيين لا يتنازلون أمام الضغوطات الآنيّة لهذه المجموعة أو تلك، بل يأخذون موقفاً جريئاً بعيد المدى وصلباً ويجعلون الناس تمشي وراءهم، بدل أن يمشوا هم وراء الناس. مَن يسير وراء الناس ليس قائداً. من يسير أمام الناس هو القائد. والقيادة تتطلّب جرأة وإبداعاً… لذلك كفى خوفاً من الناس، هذه حجة ساقطة. ويقولون إذا أجرينا الآن استفتاءً في المناطق التي خارج سيطرة الحكومة عن حلّ في سورية سيقولون «لا نريد» ويخافون. كلّ هذا كلام غير مقنع وكلامٌ فارغ. والحجة الأخيرة التي تُساق تتعلق باجتماعات اللجنة الدستورية. بينما في دمشق لا أعتقد أنّ ساعة عمل اللجنة ستكلّف 200 ألف دولار. هل تعرفون كيف كانت طريقة عمل اللجنة الدستورية؟ تشتغل أسبوعاً، وبالأسبوع خمسة أيام، وباليوم 4 ساعات أو ساعتان، ثم يذهبون إلى النوم أسبوعاً أو أسبوعين، شهراً أو شهرين، ثم يعودون ليعملوا أسبوعاً أو خمسة أيام. هذا يعني في أحسن الأحوال عشرين ساعة (5 أيام مضروبة بـ 4 ساعات).

وهكذا إذا ذهبوا إلى دمشق سوف يعملون. أنا في رأيي إذا ذهبوا إلى دمشق يجب أن يحدث لهم ما يحدث في الفاتيكان وقت انتخاب البابا: يتم إغلاق الباب ولا يخرجون حتى يطلع «الدّخان الأبيض». وبالتالي كل أعمال اللجنة الدستورية تنتهي في وقت قياسي صغير. لا أريد التنبّؤ كم هو هذا الوقت، ولكنه سيكون قصيراً بالتأكيد. لن يكون سنوات – منذ 31-10-2019 إلى 15-10 2021 كانت نتيجتها هي صفر عمليّاً – سنتان بنتيجة صفر، ولا شيء من وقتها حتى الآن. لذلك فلنتوكّلْ على الله ونَمشِ بهذا الاتجاه. ولكن أضيفُ أنّ اللجنة الدستورية لا تحلّ لوحدها المشكلة السورية. اللجنة الدستورية يمكن أن تشكّل المبادرات الإيجابية لانطلاقها أساساً موضوعيّاً لإطلاق الحل السياسي الشامل. اللجنة الدستورية جزء فقط لا يتجزّأ من الحل الشامل المتضمن في 2254: مرحلة انتقالية، دستور، انتخابات، وتوافق بين السوريين لا يشطب فيه أحدٌ أحداً، والكلمة في النهاية قرارٌ للشعب السوري لكي يقرّر مصيرَه في صندوق الانتخابات النزيه الشريف دون تزوير ودون ضغط لا خارجي ولا داخلي. البعض يحبّ الكلام عن الضغط الخارجي… صحيح… ولكن أيضاً هناك ضغوطات داخلية تعلّمناها ونعرفها (حارتنا ضيّقة). ضغوطات داخلية أمنيّة وضغوطات داخلية من قوى المال ودورها. نريد إجراء انتخابات شعبية حقيقة لنغيّر وجه سورية، لنبني سورية الجديدة. لذلك ما أقوله هو اقتراحات ملموسة؛ الاقتراح الأوّل دمشق [الذهاب إلى دمشق]، الاقتراح الثاني بدء التفاوض المباشر. التفاوض المباشر ليس مربوطاً بتنفيذ الاقتراح الأول حتماً. ولكن تنفيذ الاقتراح الأول سيفتح الباب للتفاوض المباشر – تفاوض لبحث ماذا؟ لبحث شكل تنفيذ 2254. هذا الكلام نقولُه منذ زمنٍ طويل. أريد أنْ أكرّرَ على مسامعكم ما قلتُه في أحد مؤتمراتي الصحفية السابقة. هذا ما قلته في 19 تشرين الأول 2021 هنا من هذه المنصة، وأقرأ عليكم حرفيّاً تفريغ تسجيلي الصوتي الذي قلته آنذاك:

 

من الناحية العملية، ماذا يعني نقل أعمال اللجنة الدستورية إلى دمشق؟

أولاً، يعني خلق حالة استمرارية في عمل اللجنة الدستورية، حالة عمل يومي. كما قلت منذ قليل، خلال عامين، اجتمعت اللجنة الدستورية فقط 28 يوماً، كل يوم وسطياً 4 ساعات وأحياناً ساعتان.

الواضح من سرعة هذا العمل أنه لن يؤدّي إلى الوصول إلى دستور خلال فترة قريبة، ونحن مستعجلون، والشعب السوري مستعجل أكثر منّا من أجل حلحلة الأزمة السياسية وحلحلة الموضوع القائم وحلحلة المشكلة السورية والبدء بالحل السياسي.

الاستمرارية اليومية لعمل اللجنة ستسمح بإنهاء العمل بفترة قياسية سريعة.

ثانياً، من الناحية السياسية، نقل أعمال اللجنة الدستورية إلى دمشق يعني إنهاء عدم الاعتراف المتبادل بين الطرفين اللَّذين يتفاوضان في جنيف. إلى الآن كانت هناك حالة عدم اعتراف. حالة عدم الاعتراف كانت تتمظهر في أن كل طرف يسمي الطرف الآخر بتسميات ما أنزل الله بها من سلطان ولا تؤدي إلى خلق أجواء مناسبة للحوار.

ثالثاً، نقل الأعمال إلى دمشق لا يعني فقط إنهاء عدم الاعتراف، وإنما أيضاً الاعتراف بأن الحوار هو الطريق الوحيد للحل، لن يكون هناك إسقاط ولا حسم عسكري، سيصبح الحوار الذي يجري في دمشق تحت إشراف ورقابة وحماية الأمم المتحدة وأريد أن أركّز على هذه النقطة. البعض حينما قلنا نقل أعمال اللجنة الدستورية إلى دمشق قال «تريدون أن تسلموا المعارضة لقمة سائغة لأجهزة أمن النظام؟» قلنا لهم «بالله عليكم، إذا كان وفد المعارضة سيذهب إلى دمشق وبالأساس قسم منه موجود في دمشق والقسم الذي هو غير موجود في دمشق ألا يمكن للأمم المتحدة أن تتكفل بحمايته وأن تأخذ من الحكومة السورية والنظام السوري الضمانات الضرورية والكافية بدعم من الأطراف الدولية صاحبة العلاقة لضمان أمن وسلامة وسير عمل اللجنة الدستورية على الأراضي السورية؟ لماذا الإصرار من قبل بعض المعارضين على عدم الذهاب إلى دمشق إذا كان هنالك ضمانات؟ أفهم الإصرار من قبل بعض المعارضين على عدم الذهاب إلى دمشق على أنه إصرار على عدم الاعتراف المتبادل وعلى عدم الاعتراف بالحوار بوصفه الطريق الوحيد للحل في سورية. ولا يمكن تفسير ذلك بشكل آخر.

الحقيقة أن الحوار الجاري في جنيف كان منفصلاً نهائياً عن الواقع السوري وتطوراته. وضع اللجنة السورية في حضن الشعب السوري تحت أنظاره وبشكل نؤمّن فيه أكبر علنية ممكنة، سيلعب دوراً إيجابياً… (إلخ…).

حينما اقترحنا هذا الاقتراح بأوّل اجتماع للجنة الدستورية، اقترح رفيقنا ممثل منصة موسكو في اللجنة الدستورية نقل الأعمال إلى دمشق (بأول اجتماع في 31 /10). توقّعنا أنّ أول من سيوافق عليه هو وفد الحكومة السورية، ولكن إلى الآن مضت 4 سنوات، لم ينبسوا ببنت شفة حول هذا الاقتراح. استغربنا بشكل جدّي لماذا لم يحددوا موقفاً من هذه العملية، هل لأنهم لا يريدون الاعتراف بوفد المعارضة وأن يستمروا في حالة عدم الاعتراف المتبادل؟ هل لأنهم لا يعتبرون الحوار هو الطريق الوحيد للحل؟ لذلك لتبديد هذه الشكوك، على الأطراف أن تعلن موافقتها على نقل أعمال اللجنة الدستورية إلى دمشق لأن نقلها يعني تفعيل القرار 2254 لتطبيقه من كامل جوانبه.

قلت لكم متى كان تاريخ هذا الكلام، أعتقد أنه ما يزال كلاماً راهناً، وأنا مستغربٌ أثناء قراءته أنّه لم يصبح قديماً. المشكلة بالكلام أم بالواقع الذي لم يتغير؟ المشكلة في الواقع الذي لم يتغير منذ ذلك الحين، في جمود. الآن نبذل محاولة جدّية أمامكم انطلاقاً من هنا وستستمر هذه المحاولة لكسر هذا الجمود ونعلن انطلاق هذه المحاولة من هنا، موافقتنا على الذهاب إلى جنيف مع أنّنا نعرف أنّها «طبخة بحص». هي مبادرة حسن نيّة، من طرفنا باتجاه المعارضة في هيئة التفاوض، ونأمل منهم أن يبادلوا التحية بأحسن منها، أن يكونوا شجعاناً وأن يتقدّموا إلى الأمام غير آبهين بالانتقادات والتخويف والتخوين الذي سيأتي من هنا أو هناك، مصلحة الشعب السوري فوق أي مصلحة كانت، هذا هو المهم الآن. انتهيت من موضوع اللجنة الدستورية وتعقيداتها. وأنتقل إلى بعض الأمور التي لا بدّ من ذكرها اليوم.

 

الوضع الاقتصادي كارثي وحلّه سياسيّ

أنا منذ 2012 عندما كنت عضواً في الحكومة السورية (كنت مسؤولاً عن أمور اقتصادية)، ومن على شاشة التلفزيون السوري قلتها بصراحة: «لا حلّ اقتصاديّاً للمشكلة الاقتصادية في سورية» التي كانت قد بدأت تظهر، وأنّ «الحل سياسيّ»، الحل سياسيّ عبر الحوار والتوافق بين الأطراف كلّها، وقلت في حينه واستحققتُ اللوم من قبل الذين لم يعجبهم الكلام: إذا استمر الوضع هكذا، فالاقتصاد السوري ذاهب إلى سكتة قلبية. اليوم نلاحظ أعراض السكتة القلبية ومظاهرها بكلّ جوانب الاقتصاد السوري، ما السبب؟ يهمّني أن أشرح هذه النقطة. في بادئ الأمر صارت مشاكل لوجستية، بدأت تنفصل مناطق شمال شرق، شمال غرب، محافظات، طرقات بدأت تتقطع، النقل أصبح صعباً، زادت تكاليف النقل، ارتفعت الأسعار، خفّ تدفق البضائع والتبادل البضائعي بين المناطق. بدأ التضخم وارتفاع الأسعار. إذاً، أدّى الوضع الداخلي الأمني، والصراع العسكري، إلى بدء الأزمة الاقتصادية. ما فاقم الأزمة هي العقوبات الغربية والحصار على سورية. القائمون على العقوبات يقولون إنّ هذه العقوبات هدفها النظام وإضعاف النظام. فعلياً ما الذي حدث وهل هم صادقون في كلامهم أنهم يهدفون إلى إضعاف النظام؟ فعلياً يتبيّن إذا ذهبتم إلى دمشق ستجدون ما تريدون من بضائع موجودة، لا شيء مقطوع رغم العقوبات والحصار. ولكن القضية هي كم معك نقود كي تشتري؟ هذا يعني أنّ الحصار يؤثّر نسبياً سلبياً على تدفق البضائع، ولكنه يؤثر بشكل كبير على أسعار البضائع وبالتالي يحدث تفاضل بين أصحاب الدخل المحدود وأصحاب الدخل اللامحدود. أصحاب الدخل اللامحدود في الحصار تزداد أرباحهم، أصحاب الدخل المحدود يخفّ استهلاكهم. لذلك بربّكم! يقولون العقوبات على النظام! بينما نخب النظام تمركزت ثرواتها وزادت أضعافاً مضاعفة بالحصار لأنّهم يهرّبون كلّ شيء، كلّ شيء له سعره بالنهاية. من هنا نخرج باستنتاج مفاده أنّ الفساد موجودٌ في سورية بنسبة معينة قبل الأزمة، مع أنّه عالٍ، ولكنّه لم يكن قد ضرب أرقاماً قياسياً كما هو الآن، العقوبات شجّعت الفساد لأنه أصبح شاملاً بكل معنى الكلمة. سورية اليوم بتصنيفات الأمم المتحدة من أكثر الدول فساداً في العالم، من هنا نخرج باستنتاج هامّ، ذي أهمية اقتصادية سياسية، هو أنّ الفساد في الداخل والعقوبات من الخارج وجهان لعملة واحدة. العقوبات تستدعي الفساد، والفساد سعيد بالعقوبات، والفساد موجود بالنخب في جهاز الدولة وفي المجتمع، لا أبرِّئ جهاز الدولة. وإذا كان جهاز الدولة (الحكومة) يقوم بسياسات نيوليبرالية إجرامية، أكرّر نيوليبرالية إجرامية، بحقّ الشعب السوري بتخفيض قيمة الليرة السورية، عملياً بتخفيض الإنتاج المحلي، كلّ الإجراءات إذا دُرسَت يتبيّن أنها من منطق صندوق النقد الدولي، ولذلك أنا لا أفهم كيف أنّ حكومةً محاصرةً بالعقوبات الغربية وفعلياً تقوم بتنفيذ وصفة صندوق النقد الدولي! ماذا يسمّى ذلك؟ يعرفون أو لا يعرفون. إذا كانوا لا يعرفون فهذه مشكلة أكبر، وإذا كانوا يعرفون فيجب إذاً التفكير لماذا يفعلون ذلك وهم يعلمون؟ لذلك هذه المعضلة بحاجة إلى حلّ. هناك لغز بحاجة إلى حلّ. ولا أحد يتجرّأ على فكّ هذه العقدة، لماذا يتماشون مع صندوق النقد الدولي وإجراءاته دون الإعلان عنها ولكن بتنفيذها فعلياً؟ الدولة السورية ألغت الدعم عملياً عن جميع المواد المدعومة تاريخياً التي تهمّ المواطن السوري العادي. من أجل ماذا وجد الدعم منذ الستينيّات؟ وجد لأنّ الأجر الرسمي لا يتوافق مع مستويات المعيشة. في هذه الصورة التي أمامكم إذا قارنّا الحدّ الأدنى للأجور الرسمية بتكاليف المعيشة نستنتج أنّ الحد الأدنى لتكاليف المعيشة منذ 2014 حتى 2024 قد زاد – قياساً بالليرة السورية – بمقدار 135 مرة، والشيء نفسه بالنسبة لوسطي المعيشة، لأنّ الفرق بين الحد الأدنى ووسطي المعيشة 60%. كم مرّة زادت الأجور على أساس التضخم بين 2014 و2024؟ زادت 40 مرّة. الحد الأدنى لتكاليف المعيشة كم مرة زاد؟ 135 مرّة. الحد الأدنى للأجور زاد 40 مرّة. هذا يعني مستوى المعيشة كم مرّة انخفض؟ 135 مقسومةً على 40 أي أنّه انخفض 3 مرات ونصف. أنا أتكلم عن الحد الأدنى، يعني أنه انخفض 350%، والحبل على الجرّار.

إذا لم يوجد حلّ سياسي، هل ترون هذه الخطوط الصاعدة؟ ستستمر بصعودها. فكيف تفي الدولة بالتزاماتها اليوم؟ عبر طبع العملة وإلقائها. تطبع عملة دون تغطية. لا يوجد اقتصاد حقيقي يعمل. مناطق مقسمة، الحصار متواصل. بالتالي العملة هي مصدر تغطية النفقات، هي مورد تغطية النفقات.

والنّكتة أنّهم في سورية يرفعون الأجور 100% ثم في اليوم الثاني أو الثالث ترتفع الأسعار 200%. ما تقدمه الدولة بيد يُسحَب باليد الأخرى ضِعفُه، لماذا؟ هذه ظاهرة معروفة، ألف باء الاقتصاد السياسي: زيادة الأجور من مصادر تضخّمية تؤدي إلى رفع الأسعار وبالتالي سرقة ما قدمته من زيادة الأجور. هكذا الوضع اليوم، بالتالي الوضع الاقتصادي يسير من سيّئٍ إلى أسوأ. المشكلة في سورية ليست من إدارة حزبٍ ما للأزمة، المشكلة بسورية بعد كل هذا الحديث ليست بإدارة إدارة ما، أو حكومة ما للأزمة، المشكلة ليست بشخص ما، المشكلة (العطل) أكبر، المشكلة بالبنية، لذلك نريد إصلاحاً دستورياً كما نصّت «سوتشي». الإصلاح الدستوري يعني إعادة توزيع الصلاحيات بتوازن صحيح بين مجلس الشعب والحكومة والرئاسة، اليوم هناك عدم توازن بين صلاحيات الحكومة ومجلس الشعب والرئاسة. أعطي مثالين لإثبات صحة كلامي:

1- مجلس الشعب لا يشرّع. مجلس الشعب السوري من مجالس الشعب القليلة في العالم من حيث إنّه لا يحق له إعطاء الثقة، بينما يفترض أنّ أيّ حكومة تأتي يجب أن تمرّ بتصويت ثقة. في سورية مجلس الشعب يحقّ له سحب الثقّة إذا جاءت إشارة، ولكن لا يحق له إعطاء الثقة! لماذا؟ أنا كنت عضواً باللجنة الدستورية التي صاغت الدستور الحالي وسألتهم لماذا؟ فالذي يسحب الثقة يجب أن يكون عنده حق بإعطاء الثقة، فقالوا لي حججاً ما أنزل الله بها من سلطان، عجيب غريب، مجلس شعب عملياً ليس فقط لا يحق له التصويت على الثقة، بل ويعمل 6 أشهر بالسنة فقط والـ 6 أشهر المتبقية يأخذ عطلة أو يدعى لدورات استثنائية، ويأخذون معاشات على السنة ذات الـ 12 شهراً. لماذا؟ هل أقول لكم لماذا؟ هل تريدون أن تعرفوا؟ لأن الأشهر الستة الأخرى تصدر فيها المراسيم التشريعية من الرئاسة عندما يكون مجلس الشعب غائباً. قلت لهم آنذاك لماذا لا يشتغل المجلس 9 أشهر، فليعملوا بثمن طعامهم، بثمن الأجور التي يأخذونها. هذه هي المشكلة الأولى: مجلس الشعب لا يشرّع في سورية.

2- في سورية الحكومة لا تحكم. لماذا لا تحكم، لأنّ السياسة لا تضعها الحكومة، حسب الدستور يضعها الرئيس والحكومة تنفّذ، واللهِ إنّ الدستور السابق قبل 2012 كان أنضج وأحسن! لأن ذلك الدستور كان يقول: رئيس الحكومة يضع السياسة بشكل مشترك باجتماع مشترك. هذه حُذِفَت في دستور 2012، مما يعني أنّ الرئيس وحده يضع السياسة والحكومة تنفّذ، وماذا تعني الحكومة؟ تعني موظفين من الدرجة الأولى مع سيارة مرسيدس وحرس. بالتالي هل لاحظتم عدم التوازن بالصلاحيات؟ حسناً، إنّ تفكيرنا عندما نقول إننا نريد تعديلات دستورية، ينطوي على اعتبار هذه الصلاحيات بهذا الشكل غير المتوازن وجدت في عصر آخر، في زمن آخر، ولكننا صرنا في عصر جديد، مررنا بأزمة كبرى أحد أسبابها تخلّف النظام الدستوري عن مواءمة التطورات. نريد الذهاب إلى تطوير جريء بهذا الموضوع. نحن نقول للنظام والموالاة صديقك من صدَقك وليس من صدَّقك. نقول لهم هذا الكلام بصراحة، المشكلة هي بالتعديل الدستوري الذي يضمن إقامة سورية جديدة…

 

أخيراً أريد التحدث قليلاً عن الوضع في غزة والمنطقة

أثير لغط كبير حول تصريح لافروف عن سورية وأحداث غزة، قال لافروف بالروسية: «لا يمكن استمرار العمل على التقارب السوري التركي بظل أزمة غزة وتعقيداتها.» ترجمها الإعلام العربي «مستحيل»، مما أثار الإرباك للجميع. لافروف لم يقل إنّ من المستحيل التقارب السوري والتركي، بل [فحوى قوله] إنه «صعب في الظروف الحالية»، والظروف الحالية ليست أبدية، وكما رأيتم الفصائل الفلسطينية اجتمعت، ووضعت أساساً استراتيجيّاً للحل، هدنة على الأقل قريباً، وننتظر التطورات، صفيح غزة الساخن يسخّن كل المنطقة وهذا ما يريده الأمريكان باستمرار؛ القتل والدمار في غزة. إذا انتبهتم إلى سلوك الأمريكيّين منذ اللحظة الأولى، اختلفوا قليلاً مع «الإسرائيليين» تكتيكياً، قالوا لا لوقف إطلاق النار، ولا للاجتياح. ما معنى هذا؟ معناه أنهم لا يريدون حرباً مرتفعة الشدّة، بل حرباً متوسطة أو أقل من المتوسطة بالشدّة، لكي تدوم وتستمر لفترة طويلة. وأهدافهم أبعد من غزة أهدافهم المنطقة كلّها. ما يجب أن يكون واضحاً هو أنّ الأمريكان قرروا الانسحاب الشامل من المنطقة، ولكن الذي يجب أن يكون أوضح، أنهم قرروا هيمنة كاملة على المنطقة. لذلك: الانسحاب الشامل مع الهيمنة الكاملة كيف سيتم ذلك؟ عبر الفوضى الشاملة. انسحاب شامل وهيمنة كاملة أداتها الفوضى الشاملة، لذلك من اللحظة الأولى إذا قرأتم مطبوعاتنا، قالت «قاسيون» إنّ خطر العدوان «الإسرائيلي» والأميركي ليس نحو الشمال، لبنان، وإنّما نحو الجنوب؛ مصر اليوم مهدّدة جدّياً ومحاصرة، منذ فترة وهم يحضرون لحصارها، من سدّ النهضة إلى أحداث السودان إلى الوضع الاقتصادي إلى مشكلة غزة الآن ورفح، إلى مشكلة البحر الأحمر وقناة السويس، يريد الأمريكان تفكيكَ كل المنطقة ولا أستثني أحداً، ولكن هذا مخطط ليس لشهر وشهرين، بل لسنوات لتفكيك كل المنطقة حتى العراق، وإذا كان أحد ما سعيداً بتفكيك العراق، أريد أن أقول له إنّه حتى «المنطقة الكردية» في العراق يريدون تفكيكها إلى إمارتَين، الأمريكان عندهم مخطط شامل: مصر إلى أربع أو خمس أجزاء، ويعلم الله بشأن سورية إلى كم جزء؟ لكنّ مخططاتهم شيء وما يجري على أرض الواقع شيء آخر، صمود غزة عرقل كل شيء كان يدور في ذهنهم. صمود غزة أسطوريّ ويتطلّب من الفصائل الفلسطينية أن تتجاوب مع تضحيات أهل غزة، وأن ترصّ صفوفها بأسرع ما يمكن لتحقيق وحدة منظمة التحرير بكلّ فصائلها، للذهاب إلى الدولة الوطنية الفلسطينية المستقلّة وعاصمتها القدس الشرقية.

لذلك الوضع في المنطقة خطير ومعقّد، نحن نشهد تراجع القطب الأميركي، وكما يقول العديد من الفلاسفة الغربيين إنّ الانهيار الجاري في الغرب نهائيّ. الرئيس الصيني قال لبوتين في زيارته الأخيرة لموسكو إنّ ما نراه اليوم لم نشهده منذ مئة عام (ويقصد منذ ثورة أكتوبر)، وأنا مؤيد لهذا الكلام، وأضيف إننا لم نشهده منذ 400 عام، لأنّ ما يجري تغيير جيوبوليتيكي كبير، القوى المحيطية البحرية التي هيمنت على العالم عبر الممرات والطرق البحرية تنتهي، وينتقل مركز الثقل إلى القوى البرّية، قوى اليابسة، بريجينسكي منذ 1995 في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» نبّه إلى هذا الخطر، اليوم روسيا والصين تقودان العالم إلى عالم جديد متجدد، أنا أقول ليس متعدد الأقطاب، بل لا قطبيّ. متعدد الأقطاب شيء جيد مقابل الأحادية القطبية، لأنّ تعدد الأقطاب تسبب بحربين عالميتين، علينا ألّا ننسى. لذلك العالم اللاقطبي تسوده العدالة والسلام. هذا الذي نسعى إليه وحلم به شيوخنا وأجدادنا – شيوخنا أقصد بهم ماركس، إنجلس، لينين – هذا كان حلمهم والآن نقترب منه بخطى حثيثة. وهو ماثل أمام أعيننا، ونعتقد أنّ آباءنا وأجدادنا الذين ناضلوا من أجل هذه المثل، يحسدوننا نحن اليوم حسداً أبيض. إنّ ما نراه بأمّ أعيننا يجري أمامنا قد ناضلوا من أجله طويلاً وبشكل مشرّف، ولكن ما كانوا لينتظروا أن يروه، نحنا حظّنا قويّ أنّنا نرى تغيّر العالم أمامنا وهو يجري بتسارعٍ كبير كلّ يوم أسرع من اليوم الذي قبله. لذلك أكرر هنا ما قاله أديبنا الكبير السوري سعد الله ونوس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. قال كلمة اشتهرت: «ما يجري ليس نهاية التاريخ ونحن محكومون بالأمل». وأنا أعتقد أنّه لو كان حيّاً اليوم لكان أعاد صياغة الجملة بالشكل الذي سأقترحه الآن: «ما يجري هو بداية التاريخ، ونحن محكومون بالانتصار…». شكراً.

 

أجوبة د. قدري جميل على أسئلة الصحفيين

1- أيها الدكتور قدري جميل المحترم كيف هو رأيكم في المساعدات الإنسانية التي تقدّم إلى سورية؟

هل تعرفون؟ إنها تذكّرني بالصَّدقة على الفقير. نحن نريد حلاً للمشكلة من جذورها. المجتمع الدولي لا يتجاوب بشكل كامل مع متطلبات وضرورات الحياة في سورية. الأحسن من المساعدات الإنسانية هو فكّ الحصار ورفع العقوبات. فماذا يعني أن تساعدَكَ إنسانياً الجهات نفسها المدعومة من الحكومات التي قرّرت العقوبات؟! هذه مفارقة، وهذا اسمه نفاق! الذين يقومون بالدعم بالمساعدات شكراً لهم، ولكنّ الأهم هو رفع العقوبات، فهذه أكبر مساعدة للشعب السوري لأنّ هذا سيساعدنا على بدء الحل السياسي وعلى اجتثاث الفساد من جذوره.

 

2- ما رأيكم في الأوضاع الحالية في مخيمات اللجوء؟

هل تعلمون أنّ المخيمات حول سورية بنيت قبل مجيء اللاجئين بفترة طويلة؟ خاصةً ضمن الأردن وتركيا، مما يثير التساؤل… أسئلة كهذه لا أحبّ الإجابة عليها لأنها تضعنا سياسياً في خيار أنّ هذا أمر واقع وما يمكن هو تحسين أوضاعهم، نعم يجب تحسين أوضاعهم ولكن يجب إلغاء أوضاعهم، يجب إلغاء هذه الظاهرة، يجب أن يعودوا إلى سورية. هل تلاحظون بأن التوجه بالرأي العالم الإعلامي ذاهب باتجاه الصدقات والمساعدات وليس باتجاه الحلّ؟ لأنه فقد الأمل بالحل، لأنه عنده قناعة في العقل الباطن بأنّ يد الغرب هي العليا. لا ليس صحيحاً! وضع اللاجئين السوريين في المعسكرات مُبكٍ، معسكرات لا تحميهم من برد الشتاء وقيظ الصيف، معسكرات لا تؤمن لهم بشكل كافٍ الغذاء الضروري ولا الدفء الضروري، معسكراتٌ يجب أن تكون ظاهرة قابلة للانتهاء في المستقبل القريب. وأنا ذكرت أرقاماً خلال حديثي حول كم يوجد سوريين في الخارج، وفي المعسكرات قسم كبير منهم.

 

3-ما رأيكم بكيفية مساعدة المجتمع الدولي في حل الأزمة السورية بتقديم المساعدة الدولية؟

هي عدم التدخل بين السوريين وتجهيز المظلة التي تجمعهم كي يجلسوا على طاولة حوار. التجاذب الجاري وخاصةً من الغرب باتجاه جزء من المعارضة السورية يعرقل السير نحو الحل السياسي. دور الأمم المتحدة في النهاية هو محصلة لتوازنات القوى في العالم وفي الأمم المتحدة، ولكن الخطير هو الدور الغربي… طلبنا حتى من بيدرسون أن يشرح ماذا يعني «خطوة مقابل خطوة» لم يعرف شرحها… الغرب يخادع. كان هناك تصوّر قبل أحداث أوكرانيا في 22 شباط أن المطلوب توافق… وفي النهاية يتكلم من هو موجود على الأرض. الموجودون على الأرض فعلياً في سورية هم الروس والأتراك والإيرانيون. هذه حقيقة، وهم سيقررون مسار حل الأزمة السورية عبر تأمين الأجواء الملائمة لجميع السوريين، المقرّر أن يجلسوا حسب القرار 2254 إلى طاولة المفاوضات، وإنهاء التدخلات الغربية في الأزمة السورية سيسرّع حلّها. هذا الجواب.

 

4-كيف تقيّم مساعدة روسيا الاتحادية لسورية؟

هي مساعدة للشعب السوري لا تقدّر بثمن. ليس سرّاً بل معروفاً أنّه لولا التدخل العسكري الذي جرى في 2015 لكانت سورية ستصبح مرتعاً لداعش الإرهابية مع كل تأثير وآثار ذلك على محيط سورية، محيط سورية كلّه يعني العراق وتركيا… والله أعلم أين ستتوقف آثار ذلك. لذلك الدعم العسكري الروسي لسورية كان حاسماً لأن التدخل الدولي من قبل الغرب عندما بدأ في سورية، كانت الظاهرة الغريبة هي أنه كلّما زاد التدخّل العسكري الدولي بالقصف كلّما كان داعش يتمدد ويكسب مناطق جديدة. أما عندما بدأ التدخل العسكري الروسي بدأ التقلص، أتى اتفاق أستانا، تركيا وروسيا وإيران، مناطق التهدئة، وقف إطلاق النار، هذه مساعدة لا تقدّر بثمن، روسيا ساعدت السوريين في تحقيق إنجازات كبيرة ضدّ الإرهاب، وهنا توجد نقطتان أريد الحديث عنهما بصراحة ولعلّ الأصدقاء الروس يتحملّونني.

 

1- روسيا حققت انتصارات كبيرة عسكرية في سورية مما أدّى إلى ارتفاع سمعتها السياسية. لكنّ التأخير بالحل السياسي يمكن أن يبدد النتائج السياسية للانتصار العسكري، ممكن هذه النتائج أن تتبخر سياسياً إذا لم يتم حل للمشكلة الاقتصادية المعيشية، وأنا لا أطلب من روسيا أن ترسل بواخر غذاء، أنا أطلب أن تساعد على تسريع الحلّ السياسي لكي تساعد الشعب السوري على الخروج من الحالة المأساوية التي يعيش فيها، نحن نستطيع أن نخرج من الحالة إذا ترك مصيرنا لأيدينا، إذا استطعنا الحوار والاتفاق.

 

2- النقطة الثانية التي أريد الحديث عنها، هي أنّ البعض يريد من روسيا بعد أن أدّت مهمتها بوقف الإرهاب أن تجلب الطحين والمازوت إلى سورية وتطعم السوريين. هذا ليس حلاً، وأصلاً روسيا غير قادرة عليه في الظروف الحالية. السوريون لا يريدون فحسب أنْ يحلّوا مشكلتهم السياسية بأيديهم، بل ويريدون حلّ المشكلة الاقتصادية بأيديهم أيضاً. ولكي يحلّوا مشكلتهم الاقتصادية بأيديهم يجب أن يحلّو مشكلتهم السياسية بأيديهم. يجب مساندة السوريين في حل مشكلتهم السياسية، عبر تأمين المظلة الضرورية. نحن لا نقول، ولا نوافق، أن تتدخل روسيا ولا إيران ولا تركيا بالشأن السوري، ولكن يجب تقريب وجهات النظر ولعب دور الوسيط الإيجابي الفعّال بين الأطراف السورية لكي تستطيع الجلوس على طاولة مفاوضات وحلّ أمورها، لأنّ البعض اليوم حتى من الموالاة أصبحوا يحمّلون روسيا مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية في سورية؛ قائلين: «أنتم ساعدتمونا بالقضاء على الإرهاب، طيّب، نحن نجوع فلماذا لا تطعموننا؟»، وبآنٍ واحد تتمركز الثروات أكثر فأكثر بشكل خياليّ بيد قلّة قليلة من النخب في سورية! هذه المعضلة بحاجة لحلّ. أنا أتحدّث بصراحة للأصدقاء الروس: الحل السياسي ضروري لأنّ سمعتكم على الميزان وعلى المحكّ، الوضع الاقتصادي يسمح بخلق جوٍّ في الشارع يعطي أذناً صاغية للانتقادات التي توجَّه إلى روسيا من قبل قوى مشبوهة بالنظام وخارجه، تحمّل روسيا مسؤولية الوضع الجاري في سورية. روسيا لا تتحمّل مسؤولية الوضع الاقتصادي المعاشي الجاري في سورية، تتحمّله العقوبات والفساد. وبظل العقوبات والفساد أيُّ معونة من الخارج ليس لها معنى. لذلك يجب الخروج من هذه الورطة، من هذا الثقب الأسود. لذلك أنا أقيّم الدور الروسي بشكل إيجابيّ جداً، وأبديتُ ملاحظتين أرجو أن تؤخذا بعين الاعتبار من قبل الأصدقاء الروس، وأقول ذلك علانيةً وعلى رؤوس الأشهاد وعلى المَلأ أمام الجمهور السوري: ممنوع، وليس صحيحاً تحميل روسيا مسؤولية ما يجري في سورية، سورية ما يجري فيها اقتصادياً ومعاشياً سببه الغرب والفساد، روسيا لا يمكن أن تعمل أكثر من ذلك، ولكن إذا استمر الوضع هكذا لا يمكن أن تقنع أحداً في سورية أنّ الروس لا يتحمّلون المسؤولية، وأنا حذّرتُ في مؤتمرٍ صحفيّ ماضٍ قبل سنتين أو أكثر، من أنّه إذا استمرّ الوضع على هذا الحال فسوف تتبخّرُ نتائجُ الانتصار العسكري.

 

5- يا له من مؤتمر صحفي مفيد! لقد تذكّرتُ مارتن لوثر كينغ الذي سمّى خطابه «عندي أمل». ففي كتابكم وعند الإجابة على سؤال الصحفي أنّ الفكر شيء والكلمة شيء ثان والعمل شيء ثالث، لكن كل ما يحيطنا في يوم من الأيام أمل. وأنا يهمني ما هو الأمل الذي أنتم تستيقظون عليه وهو يدور في رأسكم؟

هذا الأمر شخصيٌّ جدّاً، والله أوّلُ خاطرٍ أراه في المنام كيفية حل الأزمة السورية لصالح الشعب السوري. هذا ما يشغل بالي دائماً، وأعتقد أنّ هذا هو أساس تفكيري في الخواطر وفي الممارسة. لا يمكن الاستغناء عن ذلك، السائر يجب أن يخلق فكرةً. هلّا قرأتم غارينيي ليولان سيمونف. يجب أن تقرأوه. خلاصةً، أنا مسرور جداً بأنّنا نشهد في عصرنا هذا ما حلم به آباؤنا وأجدادنا، هم أمِلوا وآمنوا بذلك. ولذلك نحن محظوظون جداً، شكراً جزيلاً.

المصدر: جريدة قاسيون.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.