أخبار ||

بوتين يتوجه بخطاب إلى الشعب الروسي حول أوكرانيا.. مذكراً بموقع وتاريخ روسيا في قلب الأرض الأوراسي.

ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – اليوم – خطاباً توجه به إلى الشعب الروسي و الأوكراني حول الأحداث التي تجري وقائعها في أوكرانيا، وظهر واضحاً من خلال الخطاب الفلسفة الفكرية للرئيس الروسي، التي ترتكز على استعادة قوة روسيا في قلب الأرض الأوراسي، بدءاً من مواجهة أية تدخلات خارجية،  وفصل بوتين في خطابه بين ” السلطة” في أكرانيا التي انحرفت عن مبدأ الشراكة، وبدأت بالتبعبة في السيادة، وبين المواطنين الأوكران، الذين خاطبهم بـ ” المواطنين” ، مستنداً في ذلك على قائع التاريخ والجغرافيا والثقافة والدين والروابط الروحية وصلات الدم و الصداقة والقربى. وتحدث بوتين – بطريقة تأصيلية معتمداً على المنهجية التاريخية- عن نشأة وتكوين أكرانيا، مشيراً أنها دولة طارئة نشأت بعد الثورة البلشفية ١٩١٧. وبناء على ذلك، طالب بوتين بالاعتراف الفوري باستقلال وسيادة جمهورية دونيتسك وجمهورية لوغانسك الشعبيتين، كخطوة تبدو أنها الأولى في حل المشكلة الأكرانية بالنسبة لروسيا.

  • نص خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ٢١ فبراير ٢٠٢٢
  • مواطني روسيا المحترمين، الأصدقاء الأعزاء، إن موضوع خطابي اليوم هو الأحداث التي تجري وقائعها في أوكرانيا، والسبب في أهميتها للغاية بالنسبة لنا هنا في روسيا. وبالطبع، فإن مناشدتي كذلك موجهة إلى مواطنينا في أوكرانيا.
    سيتعيّن عليّ الحديث بقدر من التفصيل والتمحيص، فالقضية جد خطيرة.
    لقد اكتسب الوضع في إقليم الدونباس مرة أخرى طابعاً حرجاً وحاداً. واليوم أخاطبكم مباشرة ليس فقط لتقييم ما يحدث، ولكن أيضاً لإبلاغكم بالقرارات التي يتم اتخاذها، وغيرها من الخطوات الأخرى المحتملة في هذا الاتجاه.
    اسمحوا لي بالتأكيد مرة أخرى أن أوكرانيا بالنسبة لنا ليست مجرد دولة مجاورة، إنما هي جزء لا يتجزّأ من تاريخنا وثقافتنا وعالمنا الروحي. فهؤلاء هم رفاقنا وأقاربنا، ومن بينهم ليس فقط الزملاء والأصدقاء والزملاء السابقون، ولكن أيضاً الأقارب ومن تصلنا بهم صلات الرحم والقربى.
    لفترة طويلة، أطلق سكان الأراضي الروسية التاريخية القديمة في الجنوب والغرب على أنفسهم اسم الروس الأرثوذكس. وظل الأمر كذلك حتى القرن السابع عشر، حينما انضمت تلك الأراضي إلى الدولة الروسية منذ ذلك الحين وما تلاه.
    يبدو لنا أننا، من حيث المبدأ، نعلم جميعاً ذلك، حيث أننا نتحدث عن حقائق معروفة جيداً. في الوقت نفسه، ومن أجل فهم ما يحدث اليوم، ولشرح دوافع تصرفات روسيا، والأهداف التي حددناها لأنفسنا، من الضروري بمكان أن يتطرق الحديث ببضع كلمات على الأقل حول تاريخ هذه القضية.
    وهكذا، فلنبدأ بحقيقة أن أوكرانيا الحديثة قد أنشأتها بالكامل روسيا، وبشكل أكثر دقة، روسيا البلشفية، الشيوعية. بدأت هذه العملية على الفور تقريباً بعد ثورة 1917، بواسطة لينين ورفاقه، بطريقة فظة للغاية تجاه روسيا نفسها: من خلال فصل جزء من الأراضي التاريخية لروسيا وتمزيقها. بالطبع، لم يتم سؤال أي أحد من ملايين المواطنين، ممن يعيشون هناك حينها، عن أي شيء.
    ثم، وعشية الحرب الوطنية العظمى وبعدها، ضمّ ستالين فعلياً بعض الأراضي التي كانت في السابق مملوكة لبولندا ورومانيا والمجر إلى الاتحاد السوفيتي ونقل ملكيتها لجمهورية أوكرانيا السوفيتية. وفي الوقت نفسه، وكنوع من التعويض، منح ستالين بولندا جزءاً من الأراضي الألمانية الأصلية. وفي عام 1954، لسبب ما، أخذ خروشوف شبه جزيرة القرم من روسيا وقدمها كذلك إلى أوكرانيا. في الواقع، كانت تلك هي الطريقة التي تشكّلت بها جمهورية أوكرانيا السوفيتية.
    لكنني أود الآن أن أولي اهتماماً خاصاً للفترة الأولى لإنشاء الاتحاد السوفيتي. أعتقد أن ذلك مهم للغاية بالنسبة لنا، يتعيّن على المرء، كما يقولون، أن يبدأ القضية من بعيد.
    أود التذكير هنا أنه بعد ثورة أكتوبر من العام 1917، والحرب الأهلية اللاحقة، بدأ البلاشفة في بناء دولة جديدة، ونشأت خلافات حادة بينهم. فاقترح ستالين، الذي جمع في العام 1922 ما بين مناصب السكرتير العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الثوري ومفوض الشعب للقوميات، بناء الدولة على مبادئ الحكم الذاتي، أي منح الجمهوريات (وحدات الإدارات الإقليمية المستقبلية) صلاحيات واسعة عندما ينضمون إلى الدولة الواحدة.
    من جانبه، انتقد لينين هذه الخطة وعرض تقديم تنازلات للقوميين، حيث أطلق عليهم فيما بعد “المستقلّين”. كانت تلك الأفكار اللينينية، والتي هي في واقع الأمر نظام الدولة الكونفدرالية، المبنية على شعار حق الأمم في تقرير المصير حتى الانفصال، هي الأساس الذي بنيت عليه الدولة السوفيتية. أولاً، في العام 1922، تم تكريس تلك المبادئ في إعلان تشكيل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، ثم بعد وفاة لينين، وفي دستور الاتحاد السوفيتي في العام 1924.
    هنا، وعلى الفور، يُطرح عدد من الأسئلة. أولها، وواقعياً السؤال الرئيسي: لماذا كان من الضروري إرضاء أي طموحات قومية متنامية بشكل غير محدود في ضواحي الإمبراطورية الروسية السابقة من عظام هيكلها؟ وإعطاء مساحات شاسعة لتلك الوحدات الإدارية المشكّلة حديثاً، الأمر الذي كان في العادة يكون تعسفياً، ودونما أي ارتباط بالأرض. أكرر هنا، كانوا يمنحون تلك المساحات مع سكانها، سكان روسيا التاريخية.
    علاوة على ذلك، مُنحت تلك الوحدات الإدارية في واقع الأمر مكانة وهيئة الدول الوطنية. مرة أخرى أتساءل: لماذا كان من الضروري تقديم مثل هذه الهدايا السخيّة، التي لم يحلم بها حتى أكثر القوميين حماسة من قبل، بل ومنح تلك الجمهوريات الحق في الانفصال عن الدولة الموحّدة دون أي شروط؟
    للوهلة الأولى، هذا أمر غير مفهوم بشكل عام، يبدو وكأنه نوع من الجنون. لكن هذا فقط للوهلة الأولى. إلا أن هناك تفسير: فبعد الثورة، كانت المهمة الرئيسية للبلاشفة البقاء في السلطة بأي ثمن. ومن أجل ذلك، فعلوا كل شيء، بدءاً من الشروط المهينة لمعاهدة بريست للسلام، في الوقت الذي كانت فيه ألمانيا القيصرية وحلفاؤها في وضع عسكري واقتصادي صعب، وكانت نتيجة الحرب العالمية الأولى في الواقع نتيجة معروفة مسبقاً، فذهبوا لتلبية أي مطالب وأية رغبات من القوميين داخل الدولة.
    من وجهة نظر المصير التاريخي لروسيا وشعوبها، تبيّن أن المبادئ اللينينية لبناء الدولة لم تكن مجرد خطأ، إنما كانت كما يقولون أسوء من الخطأ بمراحل. اتضح ذلك في العام 1991 بشكل جليّ تماماً عقب انهيار الاتحاد السوفيتي.
    بالطبع، لا يمكن تغيير أحداث الماضي، لكن يجب على الأقل أن نتحدث عنها على نحو مباشر وصادق، دون أي تحفظات وبدون أي دلالات سياسية. لا يمكنني سوى أن أضيف أن اعتبارات الوضع السياسي الراهن، وبغض النظر عن مدى تأثره بتلك المؤثرات، وما قد يطرأ من نشوة الفوز في لحظة معينة من الزمان، وتحت أي ظرف من الظروف، لا ينبغي ولا يمكن اعتباره أساساً للمبادئ الأساسية للدولة.
    بمعنى أنني لا ألوم أي شخص على أي شيء الآن، كان الوضع في البلاد في ذلك الوقت وبعد الحرب الأهلية، في تلك الآونة، صعباً وخطيراً للغاية. اليوم، أريد فقط أن أقول إن الأمر كان على هذا النحو بالضبط. تلك حقيقة تاريخية. في الواقع، وكما أسلفت من قبل، ونتيجة للسياسة البلشفية، نشأت أوكرانيا السوفيتية، والتي يمكن لنا حتى يومنا هذا، أن نطلق عليها أوكرانيا التي تحمل اسم فلاديمير لينين، منشئها ومهندسها. وهي حقائق تم تأكيدها تماماً من خلال الوثائق الأرشيفية، بما في ذلك توجيهات لينين القاسية بشأن الدونباس، والتي تم ضغطها حرفياً داخل أوكرانيا. الآن يقوم “أحفاده الممتنون” بهدم النصب التذكارية لفلاديمير لينين في أوكرانيا، فيما يسمّونه تفكيك الشيوعية.
    هل ترغبون في تفكيك الشيوعية إذن؟ حسناً، هذا يناسبنا تماماً. لكن، أليس من الضروري، كما يقولون، ألا نتوقف في منتصف الطريق. نحن على استعداد لنوضح لكم ما يعنيه بالنسبة لأوكرانيا التفكيك الحقيقي للشيوعية.
    بالعودة إلى تاريخ القضية. أكرر أنه في العام 1922، تم تشكيل الاتحاد السوفيتي على أراضي الإمبراطورية الروسية السابقة. لكن الحياة نفسها أظهرت على الفور أنه كان من المستحيل ببساطة الحفاظ على كل هذه الأراضي الضخمة والمعقدة، أو إدارتها وفقاً لمبادئ الكونفدرالية المقترحة وغير المتبلورة بعد. لقد انفصلوا تماماً عن الواقع، كما انفصلوا عن التقاليد التاريخية.
    وكان من الطبيعي أن ينتقل الإرهاب الأحمر سريعاً إلى الديكتاتورية الستالينية وهيمنة الأيديولوجية الشيوعية واحتكار الحزب الشيوعي للسلطة والتأميم والنظام الموجه للاقتصاد الوطني – كل هذا واقعياً تحوّل إلى إعلان بسيط، إلى شكلية المبادئ المعلنة، ولكن غير العملية بالنسبة لنظام الدولة. في الواقع، لم يكن للجمهوريات النقابية أي حقوق سيادية، فهي ببساطة لم تكن موجودة. لكن، وفي الممارسة العملية، تم إنشاء دولة مركزية على نحو صارم وموحّد بالكامل.
    في واقع الأمر، كان ما طبّقه ستالين عملياً لا أفكار لينين، بل أفكاره الخاصة عن هيكل الدولة. لكنه لم يقم بإجراء التعديلات المقابلة على الوثائق الأساسية، على دستور البلاد، ولم يراجع رسمياً المبادئ اللينينية المعلنة لبناء الاتحاد السوفيتي. نعم، على ما يبدو أنه لم تكن هناك حاجة إلى ذلك في ظل ظروف النظام الشمولي، الذي نجح فيه كل شيء على أي حال، وبدا ظاهرياً جميلاً وجذاباً، وحتى ديمقراطياً للغاية.
    ومع ذلك، فهو لأمر مؤسف حقاً ألا نتمكن في الوقت المناسب من نزع الخيالات البغيضة والطوباوية، والمستوحاة فقط من زمن الثورة، المدمّرة لأي دولة عادية، من الأسس القانونية الرسمية التي بنيت عليها دولتنا بأكملها. لم يفكر أحد وقتها في المستقبل، كما حدث معنا من قبل.
    بدا وقتها أن قادة الحزب الشيوعي على يقين من أنهم نجحوا في تشكيل نظام حكم قوي، وأنهم تمكنوا أخيراً من حل القضية الوطنية من خلال سياساتهم. لكن التزييف واستبدال المفاهيم والتلاعب بالوعي العام والخداع أمر مكلّف. وجرثومة الطموحات القومية لم تختف، والأولوية التي زرعت بها في وقت سابق، والتي تقوض مناعة الدولة ضد عدوى القومية، كانت تنتظر وقتها المناسب. أكرر أن تلك القنبلة الموقوتة كانت الحق في الانفصال عن الاتحاد السوفيتي.
    في منتصف الثمانينات، وعلى خلفية المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة، بدأت الأزمة الواضحة للاقتصاد الموجه، والمسألة الوطنية، التي لم يكن جوهرها بعض التوقعات أو التطلعات غير المحققة لشعوب الاتحاد السوفيتي، وإنما في المقام الأول شهية النخب المحلية، تتفاقم أكثر فأكثر.
    إلا أن قادة الحرب الشيوعي، وبدلاً من التحليل العميق للوضع حينها، واتخاذ التدابير المناسبة، اقتصادياً في المقام الأول، علاوة على التحول التدريجي المدروس والمتوازن للنظام السياسي وهيكل الدولة، اقتصروا بالحديث الصريح حول استعادة المبدأ اللينيني لتقرير المصير القومي.
    فضلاً عن ذلك، وفي سياق النضال المستمر على السلطة داخل الحزب الشيوعي نفسه، بدأ كل طرف من الأطراف المتصارعة في تحفيز المشاعر القومية دون تفكير، من أجل توسيع قاعدة الدعم، وتشجيعها، والتلاعب بها، ودعم مؤيديها المحتملين بأي شكل من الأشكال. ولم يفكّر أي ممن في السلطة، على خلفية الأحاديث السطحية والشعبوية حول الديمقراطية والمستقبل المشرق المبني على أساس السوق أو الاقتصاد الموجّه، ولكن في ظروف إفقار حقيقي للناس ونقص كبير في السلع، في العواقب المأساوية التي لا مفر منها على البلاد.
    وبعد ذلك، ساروا على طول الطريق الذي عُبّد في فجر إنشاء الاتحاد السوفيتي لإرضاء طموحات النخب القومية التي نمت في صفوفهم الحزبية، بينما نسوا أن الحزب الشيوعي السوفيتي لم يعد بيده، والحمد لله، أي أدوات للحفاظ على السلطة والبلد نفسها مثل دكتاتورية إرهاب الدولة من النوع الستاليني. وأنه حتى الدور القيادي سيئ السمعة للحزب، تلاشى من أمام أعينهم دون أن يترك أثراً، مثل ضباب الصباح.
    وفي سبتمبر من العام 1989، أثناء الجلسة الكاملة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، تم تبني وثيقة قاتلة في جوهرها، ألا وهي السياسة الوطنية للحزب في الظروف الراهنة، منصة الحزب الشيوعي. تضمنت الوثيقة الأحكام التالية نصاً: “تتمتع جمهوريات الاتحاد السوفيتي بجميع الحقوق المقابلة لوضعها كدول اشتراكية ذات سيادة”.
    ومادة أخرى: “يجوز للهياكل الممثلة للسلطات العليا بجمهوريات الاتحاد السوفيتي الاحتجاج على وتعليق قرارات الدولة السوفيتية على أراضيها”.
    وانتهاءً بـ : “لكل جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفيتي جنسيتها الخاصة التي تشمل جميع سكانها”.
    ألم يكن واضحاً ما ستؤدي إليه مثل هذه الصيغ والقرارات؟
    ليس هذا هو الوقت المناسب، أو المكان المناسب للخوض في مسائل الدولة أو القانون الدستوري، لتحديد مفهوم المواطنة ذاته. إلا أن السؤال دائماً ما يطرح نفسه: لماذا، في تلك الظروف الصعبة بالفعل، كان من الضروري المضي نحو مزيد من زعزعة استقرار البلاد كلها على هذا النحو؟ تبقى الحقيقة ماثلة أمامنا.
    قبل عامين من انهيار الاتحاد السوفيتي، كان مصيره في الواقع نتيجة مفروضة مسبقاً. فالراديكاليين والقوميين، بمن فيهم وقبل كل شيء في أوكرانيا، هم من ينسبون لأنفسهم الآن فضيلة الحصول على الاستقلال. لكن، وكما نرى، ليس الوضع كذلك بالمرة. فالأخطاء التاريخية والاستراتيجية لقادة البلاشفة، قادة الحزب الشيوعي، التي ارتكبت في أوقات مختلفة أثناء بناء الدولة والسياسة الاقتصادية والوطنية، هي ما أدى إلى تفكك بلدنا الموحّد. وسيظل انهيار روسيا التاريخية، التي كانت تسمى الاتحاد السوفيتي، ذنباً أعناقهم.
    على الرغم من كل هذه المظالم والخداعات والسرقة الصريحة لروسيا، فإن شعبنا، الشعب تحديداً، قد اعترف بالحقائق الجيوسياسية الجديدة، التي نشأت إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، واعترف بالدول المستقلة الجديدة. لم يكتف الشعب بالاعتراف بذلك فحسب، بل قامت روسيا بنفسها، وعلى الرغم من وجودها آنذاك في وضع صعب، بمساعدة شركائها في رابطة الدول المستقلة، بما في ذلك زملائنا الأوكرانيون، الذين بدأوا منذ لحظة الاستقلال بالمطالبة بالدعم المادي. وقد قدّم بلدنا هذا الدعم مع احترام كرامة وسيادة أوكرانيا.
    ووفقاً لتقديرات الخبراء، التي يؤكدها حساب بسيط لأسعار الطاقة لدينا، فإن حجم القروض الميسّرة، والتفضيلات الاقتصادية والتجارية التي قدمتها روسيا لأوكرانيا، قد جعل إجمالي الفوائد للموازنة الأوكرانية في الفترة ما بين العام 1991 وحتى العام 2013 حوالي 150 مليار دولار.
    لكن ذلك ليس كل شيء، فبحلول نهاية العام 1991، بلغت التزامات ديون الاتحاد السوفيتي للدول الأجنبية والصناديق الدولية حوالي 100 مليار دولار. وفي البداية، كان من المفترض أن يتم سداد هذه القروض من قبل جميع جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق تضامناً، بما يتناسب مع إمكاناتها الاقتصادية. ومع ذلك، أخذت روسيا على عاتقها السداد الكامل لمجمل الدين السوفيتي وقامت بسداده كاملاً في العام 2017.
    في المقابل، كان على الدول المستقلة حديثاً أن تتخلى عن حصتها من الأصول الأجنبية السوفيتية، وتم التوصل إلى اتفاقيات بهذا الشأن في ديسمبر من العام 1994 مع أوكرانيا. ومع ذلك، فلم تصدّق كييف على هذه الاتفاقيات، ورفضت في وقت لاحق الامتثال ببساطة، بل وقدمت مطالبات إلى صندوق الماس، واحتياطيات الذهب، وغيرها من الممتلكات والأصول الأخرى لاتحاد الجمهوريات السوفيتية السابق في الخارج.
    ومع ذلك، وعلى الرغم من المشكلات المعروفة، فقد تعاونت روسيا دائماً مع أوكرانيا بشكل علني وصادق. وأكرر، مع احترام مصالحها، تطوّرت علاقاتنا في مختلف المجالات. وهكذا، ففي العام 2011، تجاوز حجم التجارة المتبادلة 50 مليار دولار. وأشير هنا إلى أن حجم تجارة أوكرانيا مع جميع دول الاتحاد الأوروبي، في العام 2019، أي حتى قبل الوباء، كان أقل من هذا المؤشر.
    في الوقت نفسه، كان من الواضح أن السلطات الأوكرانية تفضّل التصرف بطريقة تجعلها تتمتع بجميع الحقوق والمزايا في العلاقات مع روسيا، دون أن تتحمل أي التزامات.
    وبدلاً من الشراكة، بدأت التبعية في السيادة، والتي اكتسبت أحياناً من جانب السلطات في كييف طابعاً غير رسمي على الإطلاق، ويكفي أن نذكر الابتزاز الدائم في مجال نقل الطاقة والسرقة المبتذلة للغاز.
    إضافة إلى ذلك فقد حاولت كييف استخدام الحوار مع روسيا كذريعة للمساومة مع الغرب، الذي كانت تبتزّه بالتقارب مع موسكو، للحصول على المزايا والتسهيلات، وكأن لسان الحال يقول: وإلا سوف يزيد التأثير الروسي على أوكرانيا.
    في الوقت نفسه، أود التأكيد هنا على أن السلطات الأوكرانية قد شرعت بناء دولتها على إنكار كل ما يوحّدنا، ومن الخطوات الأولى، سعوا إلى تشويه الوعي والذاكرة التاريخية لملايين السكان، لأجيال بأكملها تعيش في أوكرانيا. ليس من المستغرب إذن أن يواجه المجتمع الأوكراني الآن صعود القومية المتطرفة، والتي سرعان ما اتخذت شكل رهاب الروس والنازية الجديدة. من هنا جاءت مشاركة القومين الأوكرانيين والنازيين الجدد في العصابات الإرهابية في شمال القوقاز، والمطالبات الصاخبة بالنزاع على الأراضي ضد روسيا.
    وقد لعبت القوى الخارجية دورها في ذلك أيضاً، بمساعدة شبكة واسعة من المنظمات غير الحكومية وأجهزة الاستخبارات التي رعت زبائنها في أوكرانيا، وقامت بترقية ممثليها إلى السلطة.
    من المهم أيضاً فهم أن أوكرانيا، في واقع الأمر، لم يكن لديها يوماً تقاليد راسخة في دولتها الحقيقية. وبدءاً من عام 1991، سلكت طريق النسخ الأعمى لنماذج الآخرين، المنقطعين عن التاريخ والواقع الأوكراني. لذلك أعيد تشكيل مؤسسات الدولة السياسية باستمرار لتلائم العشائر التي تشكّلت بسرعة مع مصالحها الأنانية، التي لا ترتبط بمصالح الشعب الأوكراني.
    إن الهدف الجوهري لما يسمى بالخيار الحضاري المؤيّد للغرب لدى الحكومة الأوليغارشية الأوكرانية لم يكن يوماً خلق ظروف أفضل لرفاهية الشعب، وإنما لتقديم خدمات خانعة لمنافسي روسيا الجيوسياسيين، بينما يتم توفير مليارات الدولارات المسروقة من الأوكرانيين وإخفاؤها من قبل تلك الفئة الأوليغارشية في البنوك الغربية.
    لقد اعتمدت بعض المجموعات المالية الصناعية، التي اتخذوها للحفاظ على الحزب والسياسة، ابتداءً، على القوميين والمتطرفين. دعا آخرون شفهياً إلى إقامة علاقات جيدة مع روسيا، من أجل التنوع الثقافي واللغوي، ووصلوا إلى السلطة بمساعدة أصوات المواطنين، ممن أيّدوا بصدق مثل تلك التطلعات، بما فيهم الملايين من سكان الجنوب الشرقي للبلاد. لكن، وبعد حصولهم على المناصب والمقاعد، خانوا ناخبيهم على الفور، وتخلّوا عن وعودهم الانتخابية، ونفّذوا على أرض الواقع الإملاءات السياسية للراديكاليين، واضطهدوا أحياناً حلفائهم بالأمس – تلك المنظمات التي دعت إلى ثنائية اللغة، ودافعت عن التعاون مع روسيا. استغلوا حقيقة أن من يدعمونهم، كقاعدة عامة، ملتزمون بالقانون، ومن ذوي الآراء المعتدلة، ممن يعتادون الثقة بالسلطات، على عكس الراديكاليين، ولن يظهروا العدوان أو يلجؤوا إلى أعمال غير قانونية.
    في المقابل، ازدادت وقاحة المتطرفين، وتزايدت مطالباتهم عاماً بعد عام. واتضح أنه من السهل عليهم فرض إرادتهم مراراً وتكراراً على حكومة ضعيفة، أصيبت هي نفسها بفيروس القومية والفساد، واستبدلت بمهارة المصالح الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الحقيقية للشعب، ومعها السيادة الحقيقية لأوكرانيا بأنواع مختلفة من المزايدات القائمة على العرق والتطرف القومي وغيرها من الأدوات العرقية الخارجية.
    لم تتطور دولة مستقرة في أوكرانيا، ولا تخدم الإجراءات السياسية والانتخابية إلى كغطاء وغلالة لإعادة توزيع السلطة والممتلكات بين مختلف عشائر الأوليغارشية.
    واكتسب الفساد، الذي يمثّل، بلا شك، تحدّياً ومشكلة لعدد من البلدان، بما في ذلك روسيا، نوعاً من السمات الخاصة في أوكرانيا. لقد تحلل وتآكل النظام وجميع أفرع السلطة، ومعه تحللت وتآكلت الدولة الأوكرانية حرفياً. استغل المتطرفون استياء الشعب المبرر، وبالغوا في احتجاجاتهم، فجلبوا انقلاباً إلى “الميدان” (ساحة الاستقلال) في العام 2014. في الوقت نفسه، تلقى هؤلاء مساعدة مباشرة من دول أجنبية. أفادت الأنباء بأن الدعم المادي لما يسمى بمعسكر الاحتجاج في ساحة الاستقلال في كييف من السفارة الأمريكية بلغ مليون دولار يومياً، وتم تحويل مبالغ ضخمة إضافية بوقاحة مباشرة إلى الحسابات المصرفية لزعماء المعارضة. والحديث هنا يدور عن مبالغ تصل إلى عشرات الملايين من الدولارات. فكم تلقى في النهاية المصابون حقاً، وعائلات من لقوا حتفهم في الاشتباكات التي اندلعت في شوارع وساحات كييف ومدن أخرى؟ لا أعتقد أن هناك داعٍ لمثل هذا السؤال.
    لقد نظّم الراديكاليون الذين استولوا على السلطة اضطهاداً وإرهاباً حقيقياً ضد من عارضوا الإجراءات غير الدستورية في البلاد. السياسيون والصحفيون والشخصيات العامة تعرضوا للسخرية والإهانة علانية. اجتاحت المدن الأوكرانية موجة من المذابح والعنف، وسلسلة من جرائم القتل البارزة، والتي أفلتت من العقاب. إنه من المستحيل أن يتذكر المرء دون أن يرتجف، تلك المأساة الرهيبة في أوديسا، حينما قُتل المشاركون في احتجاج سلمي بوحشية، وحُرقوا أحياء في مجلس النقابات العمالية. لقد أفلت المجرمون الذين ارتكبوا تلك الجريمة من العقاب، ولا يبحث عنهم أحد. لكننا نعرفهم بالاسم، وسنبذل قصارى جهدنا لمعاقبتهم، والعثور عليهم وتقديمهم للعدالة.
    لم يجعل “الميدان” أقرب إلى الديمقراطية والتقدم. فبعد أن نفذوا انقلاباً، دفع القوميون والقوى السياسية التي تدعمهم بالوضع إلى طريق مسدود، وأوصلوا أوكرانيا إلى هاوية الحرب الأهلية. بعد ثماني سنوات من تلك الأحداث، انقسمت البلاد، بينما تعاني أوكرانيا من أزمة اجتماعية واقتصادية حادة.
    لقد تم إجبار ما يقرب من ستة ملايين أوكراني في العام 2019 على السفر إلى الخارج بحثاً عن عمل، وفقاً للمنظمات الدولية. وغالباً، كقاعدة عامة، في مجال العمالة اليدوية غير الماهرة. الحقيقة التالية دالة هي الأخرى: فمنذ عام 2020، غادر أوكرانيا أكثر من 60 ألف طبيب وعامل صحي أثناء الوباء.
    منذ عام 2014، زادت رسوم إمدادات المياه بمقدار الثلث تقريباً، وللكهرباء بعدة مرات، ولغاز المنازل بعشرات المرات. كثير من الناس ببساطة لا يملكون المال لدفع ثمن المرافق، ويتعيّن عليهم حرفياً الصراع من أجل البقاء على قيد الحياة.
    فماذا حدث؟ لماذا يحدث كل هذا؟ الجواب واضح: لأن الأصول التي تم الحصول عليها ليس فقط من الحقبة السوفيتية، ولكن أيضاً من الإمبراطورية الروسية، تبدد، ودخل إلى بعض الجيوب. لقد فُقدت عشرات ومئات الآلاف من الوظائف، التي كانت موجودة بفضل التعاون الوثيق مع روسيا إلى جانب أمور أخرى، وكانت تمنح السكان دخلاً ثابتاً وتجلب الضرائب إلى خزانة الدولة. فصناعات مثل الهندسة الميكانيكية، والأجهزة، والإلكترونيات، وبناء السفن، وبناء الطائرات، إما ملقاة على قارعة الطريق أو مدمّرة تماماً. لقد كان في الواقع فخورين ليس فقط بأوكرانيا، وإنما بالاتحاد السوفيتي كله.
    في العام 2021، تم تصفية مصنع بناء السفن “تشيرنومورسكي” بمدينة نيكولاييف، حيث تم إنشاء أحواض بناء السفن الأولى في عهد يكاتيرينا الثانية. كما لم ينتج مجمع “أنطونوف” للطائرات طائرة واحدة بالإنتاج التسلسلي منذ عام 2016، وكان مصنع “يوغماش” المتخصص في إنتاج الصواريخ وتكنولوجيا الفضاء على وشك الإفلاس، شأنه في ذلك شأن مصنع الصلب في كريمنشوك. القائمة المحزنة تطول.
    أما بالنسبة لنظام نقل الغاز، الذي أنشأه الاتحاد السوفيتي كله، فهو متهالك لدرجة أن تشغيله يرتبط بمخاطر كبيرة ومخلفات بيئية.
    وبهذا الصدد يطرح السؤال نفسه: هل الفقر واليأس وفقدان الإمكانات الصناعية والتكنولوجية هي مرادفات للخيار الحضاري الموالي للغرب، الذي كان يخادع ويخدع ملايين الناس لسنوات عديدة، واعداً إياهم بالجنة؟
    في الواقع، يعود كل ذلك إلى حقيقة أن انهيار الاقتصاد الأوكراني كان مصحوباً بسرقة صريحة للمواطنين الأوكرانيين، وأن أوكرانيا نفسها كانت ببساطة مدفوعة كي تقع في براثن السيطرة الأجنبية. والتي لم تعد تنفذ أوامر العواصم الغربية فحسب، وإنما تأتي الأوامر مباشرة، كما يقولون، من خلال شبكة كاملة من المستشارين الأجانب والمنظمات غير الحكومية وغيرها من المؤسسات الأخرى المنتشرة في أوكرانيا. والتي لها تأثير مباشر على جميع قرارات الموظفين الأكثر أهمية في الدولة، على كافة الفروع والمستويات الحكومية: من المركزية وحتى البلدية، على المؤسسات والشركات الحكومية المملوكة للدولة، بما في ذلك “نفط غاز” و”أوكرإينيرغو” و”السكك الحديدية الأوكرانية” و”أوكربروشتا” و”أوكر أوبورون بروم” و”إدارة الموانئ البحرية لأوكرانيا”.
    ببساطة، لا توجد محكمة مستقلة في أوكرانيا. وبناء على طلب الغرب، منحت سلطات كييف ممثلي المنظمات الدولية الحق الوقائي لاختيار أعضاء أرفع الهيئات القضائية: مجلس العدل ولجنة تأهيل القضاة.
    بالإضافة إلى ذلك، تسيطر سفارة الولايات المتحدة بشكل مباشر على الوكالة الوطنية لمكافحة الفساد، والمكتب الوطني لمكافحة الفساد، ومكتب المدعي العام المتخصص في مكافحة الفساد، والمحكمة العليا لمكافحة الفساد. حسناً، ولكن أين النتائج؟ لقد ازدهر الفساد بشكل مضطرد، بل وأكثر من أي وقت مضى.
    هل يدرك الأوكرانيون أنفسهم بكل هذه الأساليب الإدارية؟ هل يفهمون أن بلادهم لم تعد حتى تحت حماية سياسية واقتصادية، لكنها تقلصت حتى إلى مستوى مستعمرة مع نظام دمية؟ تسبب في خصخصة الدولة إلى درجة أن الحكومة، التي تطلق على نفسها اسم “سلطة الوطنيين”، قد فقدت طابعها الوطني، وأصبحت تنزلق باستمرار نحو التنازل عن السيادة الكاملة للبلاد.
    يستمر المسار كذلك نحو نزع الطابع الروسي والاستيعاب القسري. يصدر البرلمان الأوكراني باستمرار قوانين عنصرية جديدة، فيما سمي بقانون الشعوب الأصلية، وهو قانون ساري المفعول، بشأن المواطنين الذين يعتبرون أنفسهم روسيين ويرغبون في الحفاظ على هويتهم ولغتهم وثقافتهم، حيث يقرّ القانون بأنهم قد أصبحوا غرباء في أوكرانيا.
    وفقاً لقوانين التعليم واعتماد اللغة الأوكرانية اللغة الرسمية الوحيدة في البلاد، ستطرد اللغة الروسية من المدارس، ومن جميع المجالات العامة، وحتى من المتاجر العادية. القانون يتعلّق بما يسمى التطهير، “تطهير” السلطة، وهو ما جعل من الممكن التعامل مع موظفي الخدمة المدنية المرفوضين.
    تتكاثر الأفعال التي تمنح وكالات إنفاذ القانون الأوكرانية أسباباً لقمعها القاسي لحرية التعبير والمعارضة واضطهاد المعارضة. يعرف العالم الممارسة المحزنة للعقوبات غير المشروعة من جانب واحد ضد الدول الأخرى والأفراد الأجانب والكيانات القانونية. في أوكرانيا، تفوّقوا على رعاتهم الغربيين، واخترعوا أداة تشبه العقوبات ضد مواطنيهم والشركات والقنوات التلفزيونية ووسائل الإعلام الأخرى، وحتى نواب البرلمان.
    في كييف، يواصلون التحضير لعمليات انتقامية ضد الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو. وليس ذلك تقييماً عاطفياً، وإنما يتضح من خلال قرارات ووثائق بعينها. لقد حوّلت السلطات الأوكرانية بسخرية مأساة الانقسام الكنسي إلى أداة سياسية في يد الدولة. لا تستجيب القيادة الحالية للبلاد لطلبات المواطنين الأوكرانيين لإلغاء القوانين التي تنتهك حقوق المؤمنين. علاوة على ذلك، سجّل البرلمان الأوكراني مشاريع قوانين جديدة موجهة ضد رجال الدين وملايين من أبناء رعية الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو.
    بشكل منفصل، أتحدّث عن شبه جزيرة القرم. لقد اختار سكان شبه جزيرة القرم، بحريّة، أن يكونوا مع روسيا. ليس لدى سلطات كييف ما يعترض على هذه الإرادة الشعبية الواضحة سوى بالأعمال العدوانية، من تفعيل للخلايا المتطرفة، بما في ذلك المنظمات الإسلامية الأصولية، وتسلل الجماعات التخريبية لارتكاب هجمات إرهابية على البنية التحتية الحيوية، لاختطاف المواطنين الروس. لددينا أدلة مباشرة على أن مثل هذه الأعمال العدوانية تتم بدعم من وكالات استخبارات أجنبية.
    في مارس من العام 2021، اعتمدت أوكرانيا استراتيجية عسكرية جديدة. وتلك وثيقة مكرّسة بالكامل تقريباً للمواجهة مع روسيا، وتهدف إلى جرّ الدول الأجنبية للصراع مع بلادنا. تقترح الاستراتيجية في واقع الأمر تنظيم خلايا سرية إرهابية في شبه جزيرة القرم الروسية وعلى أراضي الدونباس. كما توضح الوثيقة ملامح الحرب المقترحة، التي يجب أن تكون، وفقاً لاستراتيجية كييف اليوم، وكما يأتي نصاً: “بمساعدة المجتمع الدولي بشروط مواتية لأوكرانيا”. وأيضاً، كما يقولون في كييف، وذلك أيضاً اقتباس (استمعوا بعناية أكبر، من فضلكم): “بدعم عسكري من المجتمع الدولي في المواجهة الجيوسياسية مع الاتحاد الروسي”. في واقع الأمر، ليس ذلك سوى استعداد لأعمال عدائية ضد روسيا.
    نعلم أيضاً أنه كانت هناك بالفعل تصريحات تفيد بأن أوكرانيا ستصنع أسلحة نووية خاصة بها، وليس ذلك مجرد تبجّحٍ فارغ. فلا تزال أوكرانيا تمتلك بالفعل تقنيات نووية سوفيتية، ووسائل لإيصال مثل هذه الأسلحة، بما في ذلك الطيران، وكذلك صواريخ “توتشكا-يو” العملياتية والتكتيكية، أيضاً ذات التصميم السوفيتي، والتي يبلغ مداها أكثر من 100 كيلومتر. لكنهم سيفعلون المزيد، إنها مسألة وقت لا أكثر. تلك تراكمات الحقبة السوفيتية.
    وبالتالي، سيكون من الأسهل بالنسبة لأوكرانيا امتلاك أسلحة نووية تكتيكية أكثر من بعض الدول الأخرى، ولن أذكرها الآن، التي تجري بالفعل مثل هذه التطويرات، لا سيما في حالة الدعم التكنولوجي من الخارج، ويجب أيضاً ألا نستبعد ذلك.
    إن الوضع في العالم وفي أوروبا، وخاصة بالنسبة لنا في روسيا، سوف يتغيّر بالطريقة الأكثر جذرية، مع ظهور أسلحة الدمار الشامل في أوكرانيا. لا يمكننا أن نفشل في الرد على هذا الخطر الحقيقي، خاصة، وأكرر، أن الرعاة الغربيين يمكن أن يساهموا في ظهور مثل هذه الأسلحة في أوكرانيا من أجل خلق تهديد آخر لبلادنا. إننا نرى مدى استمرار الضخ العسكري لنظام كييف. لقد خصصت الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، منذ 2014، مليارات الدولارات لهذه الأغراض، بما في ذلك لتوريد الأسلحة والمعدات وتدريب المتخصصين. وفي الأشهر الأخيرة، تصل الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا بتدفق مستمر، وبتحدٍ أمام العالم بأسره. وأنشطة القوات المسلحة وأجهزة الاستخبارات الأوكرانية يقودها مستشارون أجانب، ونحن نعلم ذلك جيداً.
    في السنوات الأخيرة، وبحجة التدريبات، كانت الوحدات العسكرية لدول “الناتو” موجودة تقريباً بشكل دائم على أراضي أوكرانيا. وتم دمج نظام القيادة والتحكم للقوات الأوكرانية بالفعل مع أنظمة “الناتو”. وهذا يعني أن قيادة القوات المسلحة الأوكرانية، حتى الوحدات الفردية والوحدات الفرعية، يمكن القيام بها مباشرة من مقر “الناتو”.
    فقد بدأت الولايات المتحدة الأمريكية و”الناتو” في التعرف على مسرح العمليات العسكرية المحتملة على أراضي أوكرانيا بلا خجل. والتركيز الواضح في التدريبات المنتظمة المشتركة على مناهضة روسيا. وفي العام الماضي وحده، شارك في تلك التدريبات ما يربو على 23 ألف جندي، وأكثر من ألف قطعة من المعدات.
    وقد تم بالفعل اعتماد قانون بشأن قبول القوات المسلحة لدول أخرى في العام 2022 على أراضي أوكرانيا للمشاركة في تدريبات متعددة الجنسيات. من الواضح أننا نتحدث هنا في المقام الأول عن قوات “الناتو”. ومن المقرر إجراء ما لا يقل عن عشر مناورات مشتركة من هذا القبيل في العام المقبل.
    من الواضح كذلك أن مثل هذه الأحداث تعمل كغطاء للحشد السريع للتجمع العسكري لحلف “الناتو” على أراضي أوكرانيا. علاوة على ذلك، فإن شبكة المطارات التي تم تحديثها بمساعدة الأمريكيين في بوريسبول وإيفانو-فرانكوفسك وتشوغويف وأوديسا وغيرها قادرة على ضمان نقل الوحدات العسكرية في أقصر وقت ممكن. والمجال الجوي لأوكرانيا مفتوح لرحلات الطائرات الاستراتيجية والاستطلاعية الأمريكية، المركبات الجوية غير المأهولة التي تستخدم لمراقبة الأراضي الروسية.
    أضيف هنا أن مركز العمليات البحرية في أوتشاكوفو، الذي بناه الأمريكيون، يجعل من الممكن ضمان تحركات سفن “الناتو”، بما في ذلك استخدامهم لأسلحة عالية الدقة ضد أسطول البحر الأسود الروسي وبنيتنا التحتية على طول ساحل البحر الأسود بالكامل.
    في وقت من الأوقات، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تنوي إنشاء منشآت مماثلة في شبه جزيرة القرم، لكن أهالي القرم وسيفاستوبل أحبطوا هذه الخطط. وسوف نتذكر هذا دائماً.
    أكرر، لقد تم نشر مثل هذا المركز بالفعل في أوتشاكوفا. اسمحوا لي أن أذكركم في هذا المقام أن جنود ألكسندر سوفوروف في القرن الثامن عشر قاتلوا من أجل هذه المدينة. وبفضل شجاعتهم، أصبحت تلك الأراضي جزءاً من روسيا. ثم، في القرن الثامن عشر أيضاً، أطلق على أراضي منطقة البحر الأسود، التي ضمتها روسيا نتيجة للحروب مع الإمبراطورية العثمانية، اسم نوفوروسيا (روسيا الجديدة – المترجم). الآن يحاولون نسيان معالم هذا التاريخ، وكذلك أسماء الشخصيات العسكرية للدولة في الإمبراطورية الروسية، والذين بدون إنجازاتهم لما كان لأوكرانيا الحديثة الحق في أي من المدن الكبيرة، وحتى في منفذ البحر الأسود نفسه.
    في الآونة الأخيرة، قاموا بهدم نصب تذكاري لألكسندر سوفوروف في بولتافا. ماذا عسانا أن نقول؟ هل تتخلون عن ماضيكم؟ عما يسمّى بالتراث الاستعماري للإمبراطورية الروسية؟ حسناً، فلتكونوا إذن متسقين مع أنفسكم.
    إضافة إلى ذلك، ألفت عنايتكم إلى أن المادة 17 من دستور أوكرانيا لا تسمح بنشر قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها. لكن اتضح أن ذلك الشرط يمكن التحايل عليه بسهولة.
    يتم نشر البعثات التعليمية والتدريبية لدول “الناتو” في أوكرانيا. هذه، في الواقع، هي فعلياً قواعد عسكرية أجنبية. كل ما هنا لك أنهم أطلقوا على القاعدة اسم “البعثة” وهذا كل شيء.
    لطالما أعلنت كييف مساراً استراتيجياً نحو الانضمام إلى حلف “الناتو”. نعم، بالطبع، لكل دولة الحق في اختيار نظامها الأمني، وإبرام التحالفات العسكرية. ويبدو هنا أن كل شيء على ما يرام، إلا أن هناك في الأمر “لكن”. فالوثائق الدولية هنا تسجّل صراحة مبدأ الأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة، والذي، كما هو معروف، يتضمن التزامات بعدم تعزيز أمن الدول على حساب أمن دول أخرى. يمكنني بهذا الصدد الإشارة إلى ميثاق منظمة الأمن والتعاون في أوروبا لعام 1999 بشأن الأمن الأوروبي، والذي اعتمد في إسطنبول، وإعلان أستانا لعام 2010، الصادر كذلك عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
    بعبارات أخرى، لا ينبغي أن يشكل اختيار طرق ضمان الأمن تهديداً للدول الأخرى، وانضمام أوكرانيا إلى “الناتو” يمثّل تهديداً مباشراً لأمن روسيا.
    اسمحوا لي أن أذكركم بأنه في أبريل من العام 2008، في قمة بوخارست لحلف “الناتو”، دفعت الولايات المتحدة بقرارها أن تصبح أوكرانيا، وبالمناسبة، جورجيا أيضاً، أعضاء في الحلف. كان عدد من الحلفاء الأوروبيين للولايات المتحدة الأمريكية يدركون جيداً جميع مخاطر هذا الاحتمال، لكنهم اضطروا للتصالح مع إرادة شريكهم الأكبر. لقد استخدمهم الأمريكيون ببساطة لتنفيذ سياسة واضحة مناهضة لروسيا.
    لا يزال عدد من الدول الأعضاء في الحلف متشككاً للغاية بشأن ظهور أوكرانيا في “الناتو”. في الوقت نفسه نتلقى إشارة من بعض العواصم الأوروبية تقول: “ماذا يقلقكم؟ إن ذلك لن يكون غداً حرفياً”. في الواقع يتحدث شركاؤنا الأمريكيون أيضاً عن هذا. نجيب: “حسناً، لن يحدث غداً، لكن ربما بعد غد. ما الذي يتغيّر حينها من المنظور التاريخي؟ في واقع الأمر، لا شيء”.
    علاوة على ذلك، فنحن نعلم مواقف وكلمات قيادات الولايات المتحدة من الأعمال العدائية النشطة في شرق أوكرانيا، لا تستبعد إمكانية انضمام هذا البلد إلى “الناتو”، إذا كان بإمكانه تلبية معايير حلف “الناتو” والتخلص من الفساد.
    في الوقت نفسه، يحاولون إقناعنا مراراً وتكراراً بأن “الناتو” هو تحالف دفاعي بحت ومحب للسلام. وكأن لسان حالهم يقول، لا توجد تهديدات لروسيا. مرة أخرى يعرضون علينا أن نصدق كلماتهم. لكننا نعرف القيمة الحقيقية لمثل هذه الكلمات. ففي عام 1990، عندما كانت قضية الوحدة الألمانية قيد المناقشة، تلقت القيادة السوفيتية وعوداً من قبل الولايات المتحدة بأنه لن يكون هناك تمدد لـ “الناتو” أو الوجود العسكري بمقدار بوصة واحدة شرقاً. وأن توحيد ألمانيا لن يؤدي إلى انتشار المنظمة العسكرية لـ “الناتو” نحو الشرق. كان ذلك نص كلماتهم.
    تكلموا، وقدموا تأكيدات شفهية، واتضح في النهاية أن كل شيء كان عبارات فارغة. لاحقاً، تم التأكيد لنا على أن انضمام دول وسط وشرق أوروبا إلى “الناتو” لن يؤدي سوى إلى تحسين العلاقات مع موسكو، وتخفيف مخاوف هذه البلدان من الإرث التاريخي الثقيل، وحتى إنشاء حزام من الدول الصديقة لروسيا.
    ما جرى كان عكس ذلك تماماً. أخذت بعض دول أوروبا الشرقية بالمتاجرة برهاب روسيا، وجاءت إلى الحلف بعقدها وصورها النمطية حول التهديد الروسي للحلف، وأصرّت على بناء إمكانات دفاعية جماعية، يجب نشرها في المقام الأول ضد روسيا. علاوة على ذلك، حدث هذا في التسعينيات وأوائل القرن الواحد والعشرين، عندما كانت العلاقات بين روسيا والغرب على مستوىً عالٍ، بفضل الانفتاح وحسن النية.
    لقد أوفت روسيا بجميع التزاماتها، بما في ذلك انسحاب القوات من ألمانيا، ومن دول وسط وشرق أوروبا، وبالتالي قدمت مساهمة كبيرة في التغلب على إرث الحرب الباردة. لقد اقترحنا باستمرار خيارات لمختلف أوجه التعاون، بما في ذلك في شكل مجلس روسيا و”الناتو” ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
    علاوة على ذلك سأقول لكم الآن، ولأول مرة، ما لم أقله علناً من قبل. في العام 2000، أثناء زيارة قام بها الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، بيل كلينتون، إلى موسكو، سألته: “ما هو شعور الولايات المتحدة حيال قبول انضمام روسيا إلى (الناتو)؟”
    لن أكشف عن تفاصيل هذه المحادثة، لكن رد الفعل على سؤالي بدا، لنقل، متحفظاً للغاية. أما عن كيف كان رد فعل الأمريكيين حقاً تجاه هذه الفرصة، فقد بدا ذلك واضحاً في خطواتهم العملية تجاه بلدنا. وهي الدعم المفتوح للإرهابيين في شمال القوقاز، وتجاهل مطالبنا ومخاوفنا الأمنية في توسع “الناتو”، والانسحاب من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية، وما إلى ذلك. يريد المرء أن يتساءل هنا: “لماذا؟ لماذا كل هذا، من أجل ماذا؟ حسناً، لا تريدون رؤيتنا كصديق وحليف، لكن لماذا تصنعون منا أعداء؟”
    هناك إجابة واحدة فقط: الأمر لا يتعلق بنظامنا السياسي، ولا بأي شيء آخر، هم ببساطة لا يحتاجون إلى دولة مستقلة كبيرة مثل روسيا. هذه هي إجابة كل الأسئلة. هذا هو مصدر السياسة الأمريكية التقليدية تجاه روسيا. ومن هنا جاء الموقف من كل مقترحاتنا بشأن الضمانات الأمنية.
    اليوم، تكفي نظرة واحدة على الخريطة، كي نعرف كيف “أوفت” الدول الغربية بوعدها بعدم تمدد “الناتو” شرقاً. خدعونا بكل بساطة. تلقينا خمس موجات من توسع “الناتو” شرقاً، الواحدة تلو الأخرى. في العام 1999، تم قبول بولندا وجمهورية التشيك والمجر في التحالف، في العام 2004، بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا، في العام 2017 الجبل الأسود وفي العام 2020 مقدونيا الشمالية.
    نتيجة لذلك، جاء الحلف ببنيته التحتية العسكرية مباشرة إلى حدود روسيا. أصبح هذا أحد الأسباب الرئيسية للأزمة الأمنية الأوروبية، وكان له التأثير الأكثر سلبية على نظام العلاقات الدولية بأكمله، وأدى إلى فقدان الثقة المتبادلة.
    لكن الوضع استمر في التدهور، بما في ذلك في المجال الاستراتيجي. وهكذا تم نشر مناطق مواقع للصواريخ المضادة كجزء من المشروع الأمريكي لإنشاء نظام دفاع صاروخي عالمي في رومانيا وبولندا. من المعروف أن منصات الإطلاق موجودة، ويمكن استخدامها لصواريخ توماهوك وهي أنظمة هجومية ضاربة.
    بالإضافة إلى ذلك، تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتطوير الصاروخ المدمج “ستاندارد-6″، الذي يمكنه إلى جانب حل مشكلات الدفاع الجوي، والدفاع المضاد للصواريخ، إصابة الأهداف الأرضية والسطحية. أي أن نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي المفترض يتوسع ويظهر قدرات هجومية جديدة.
    تقدم المعلومات التي لدينا كل الأسباب للاعتقاد بأن دخول أوكرانيا إلى “الناتو” والنشر اللاحق لمنشآته هو أمر مفروغ منه، هي مسألة وقت. نحن نفهم بوضوح أنه في ظل مثل هذا السيناريو، سيرتفع مستوى التهديدات العسكرية لروسيا بشكل كبير، عدة مرات. وأولي اهتمامً خاصاً لحقيقة أن خطر الضربة المفاجئة ضد بلادنا سيتضاعف بعدة مرات.
    اسمحوا لي كذلك بتوضيح أن وثائق التخطيط الاستراتيجي الأمريكية (الوثائق!)، تحتوي على إمكانية ما يسمى بالضربة الاستباقية ضد أنظمة صواريخ العدو. ومن هو العدو الرئيسي للولايات المتحدة الأمريكية و”الناتو”، كما نعلم، إنها روسيا. إن ذلك ما تعلنه وثائق “الناتو” رسمياً، بأن بلادنا تشكل التهديد الرئيسي لأمن أوروبا والمحيط الأطلسي. وستكون أوكرانيا بمثابة رأس الحربة لمثل هذه الضربة. لو كان أسلافنا قد سمعوا عن ذلك، من المحتمل أنهم ببساطة لم يكونوا ليصدقوه. واليوم أيضاً لا نريد نحن تصديق ذلك، لكنه حقيقي. أريد أن يفهمه الجميع في روسيا وأوكرانيا.
    إن عدداً من المطارات الأوكرانية تقع بالقرب من حدودنا. وستتمكن طائرات “الناتو” التكتيكية المتمركزة هناك، بما في ذلك ناقلات الأسلحة عالية الدقة، من ضرب أراضينا حتى عمق خط فولغوغراد-كازان-سامارا-أستراخان. ونشر أصول استطلاع الرادار على أراضي أوكرانيا سيسمح لحلف “الناتو” بالسيطرة الشديدة على المجال الجوي لروسيا حتى جبال الأورال.
    وأخيراً، بعد أن خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من معاهدة القوات النووية متوسطة المدى، يعمل البنتاغون بالفعل على تطوير مجموعة كاملة من أسلحة الضربة الأرضية، بما في ذلك الصواريخ الباليستية القادرة على الوصول إلى أهداف على مسافة تصل إلى 5500 كيلومتر. وإذا تم نشر مثل هذه الأنظمة في أوكرانيا، فستكون قادرة على ضرب الأهداف في جميع أنحاء الأراضي الأوروبية لروسيا، وكذلك بعد جبال الأورال. ستكون مدة رحلة صاروخ توماهوك كروز إلى موسكو أقل من 35 دقيقة، وللصواريخ الباليستية من منطقة خاركوف 7-8 دقائق، وللأسلحة الهجومية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت 4-5 دقائق. وهذا ما يسمى اصطلاحاً بـ “سكين على الحلق”. وهم، بلا شك، يتوقعون تنفيذ هذه الخطط بالطريقة نفسها التي فعلوها مراراً وتكراراً في السنوات الماضية، لتوسع “الناتو” شرقاً، ودفع البنية التحتية والمعدات العسكرية إلى الحدود الروسية، متجاهلين تماماً مخاوفنا واحتجاجاتنا وتحذيراتنا. معذرة، لقد بصقوا عليها، ويفعلون ما يشاءون، كل ما يرونه مناسباً.
    وبالطبع، يعتزمون أيضاً الاستمرار في التصرف وفق المثل المشهور “الكلاب تنبح والقافلة تسير”. سأقول على الفور إننا لم نوافق على ذلك، ولن نوافق أبداً. في الوقت نفسه، لطالما دافعت روسيا، ودعت إلى حل أصعب المشكلات بالطرق السياسية والدبلوماسية على طاولات المفاوضات.
    ونحن ندرك جيداً مسؤوليتنا الجسيمة عن الاستقرار الإقليمي والعالمي. وفي العام 2008، قدمت روسيا مبادرة لإبرام معاهدة أمنية أوروبية. كان مفهومها أنه لا يمكن لدولة واحدة ولا لمنظمة دولية واحدة في المنطقة الأوروأطلسية أن تعزز أمنها على حساب أمن الآخرين. ومع ذلك، تم رفض اقتراحنا فجأة: من المستحيل، كما قالوا لنا، السماح لروسيا بالحد من أنشطة “الناتو”.
    علاوة على ذلك، قيل لنا صراحة إن أعضاء حلف شمال الأطلسي فقط هم من يمكنهم الحصول على ضمانات أمنية ملزمة قانوناً.
    في ديسمبر الماضي، قمنا بتسليم شركائنا الغربيين مشروع معاهدة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية بشأن الضمانات الأمنية، بالإضافة إلى مسودة اتفاقية بشأن تدابير ضمان أمن روسيا والدول الأعضاء في “الناتو”.
    جاءنا الرد من الولايات المتحدة الأمريكية و”الناتو” بكلمات عامة مبهمة. كانت هناك كذلك بعض الأفكار العقلانية، لكن كل ذلك كان يتعلق بنقاط ثانوية، وبدا وكأنها محاولة لتصفية القضية، وتحويل المناقشة إلى قضايا فرعية.
    كان رد فعلنا بشكل مناسب، مؤكدين أننا مستعدون للسير على طريق المفاوضات، ولكن بشرط أن يتم النظر في جميع القضايا كحزمة واحدة، دون فصلها عن المقترحات الروسية الأساسية. والتي تتضمن ثلاث نقاط رئيسية: الأولى هي وقف تمدد “الناتو” ناحية الشرق. والثانية هي رفض الحلف نشر أنظمة أسلحة ضاربة على الحدود الروسية، والثالثة والأخيرة عودة الإمكانات العسكرية لـ “الناتو” والبنية التحتية في أوروبا إلى وضع عام 1997، عندما تم التوقيع على الوثيقة التأسيسية بين روسيا و”الناتو”.
    لقد تم تجاهل مقترحاتنا الأساسية هذه على وجه التحديد. أكرر أن الشركاء الغربيين عبّروا مرة أخرى عن الصيغ التي تعودوا عليها بأن لكل دولة الحق في اختيار السبل التي تضمن أمنها بحرية، والدخول في أي تحالفات أو تكتلات عسكرية. أي أن شيئاً لم يتغير في موقفهم، هي نفس الإشارات إلى سياسة “الباب المفتوح” سيئة السمعة لحلف “الناتو”. علاوة على ذلك، يحاولون مرة أخرى ابتزازنا، ويهددونا مرة أخرى بالعقوبات، والتي بالمناسبة، سوف يفرضونها على أي حال من الأحوال، كلما تعززت سيادة روسيا، وازدادت قدرة قواتنا المسلحة. وسوف يتمكنون دائماً من العثور على ذريعة ملفقة لعقوبات جديدة، بغض النظر عن الوضع في أوكرانيا. سوف يفعلون ذلك، كما فعلوه من قبل، حتى من دون أي ذريعة رسمية على الإطلاق، لمجرد أننا موجودون، وأننا لن نتنازل عن سيادتنا ومصالحنا الوطنية وقيمنا.
    أود أن أقولها بصراحة وبوضوح، إنه في الوضع الحالي، وبينما تظل مقترحاتنا لإجراء حوار الند للند حول القضايا الأساسية دون إجابة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلف “الناتو”، ويزداد مستوى التهديدات لبلادنا بشكل كبير، فإن لدى روسيا كل الحق في اتخاذ إجراءات مقابلة لضمان أمنها. وهذا بالضبط ما سوف نفعله.
    أما بالنسبة للوضع في إقليم الدونباس، فنحن نرى أن النخبة الحاكمة في كييف تعرب باستمرار وبشكل علني عن عدم رغبتها في تنفيذ حزمة إجراءات اتفاقيات مينسك لحل النزاع، وعدم اهتمامها بالحل السلمي. وعلى العكس من ذلك، تحاول تنظيم حرب خاطفة في الدونباس مرة أخرى، كما حدث بالفعل في عامي 2014 و2015. ونحن جميعاً نتذكر كيف انتهت هذه المغامرات حينها.
    الآن، لا يمر يوم واحد عملياً، دون قصف للمناطق السكنية في الدونباس. وتستخدم التشكيلات العسكرية الكبيرة باستمرار طائرات هجومية من دون طيار، ومعدات ثقيلة، وصواريخ مدفعية، وقاذفات صواريخ متعددة. ولا يتوقف مقتل المدنيين والحصار والاعتداء على السكان من الأطفال والنساء والشيوخ. وكما يقال، لا يلوح في الأفق نهاية لهذا الأمر.
    وما يسمى بالعالم المتحضر، الذي نصّب زملاؤنا الغربيون أنفسهم الممثلين الوحيدين له، يفضّلون عدم ملاحظة ذلك، وكأن كل هذا الرعب، والإبادة الجماعية، التي يتعرض لها ما يقرب من 4 ملايين مواطن، غير موجودة، لمجرد أن هؤلاء لم يوافقوا على دعم الانقلاب الغربي بأوكرانيا في العام 2014، وعارضوا توجه الدولة نحو عصور الظلام والقومية المتطرفة العدوانية والنازية الجديدة، بينما يقاتلون من أجل حقوقهم الأساسية في العيش على أرضهم، والتحدث بلغتهم الخاصة، والحفاظ على ثقافتهم وتقاليدهم.
    إلى متى يمكن أن تستمر هذه المأساة؟ إلى متى يمكن تحمل ذلك؟ لقد بذلت روسيا قصارى جهدها للحفاظ على وحدة أراضي أوكرانيا، وطوال هذه السنوات ناضلت بإصرار وصبر من أجل تنفيذ قرار مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة رقم 2202، الصادر في 17 فبراير لعام 2015، والذي عزز حزمة تدابير مينسك المؤرخة في 12 فبراير من العام 2015 لحل الوضع في الدونباس.
    كل شيء يذهب هباءً. يتغير الرؤساء ونواب البرلمان، لكن جوهر الطابع القومي العدواني للنظام الذي اختطف السلطة في كييف يظل نفسه، ولا يتغير. إنه نتاج كامل متكامل لانقلاب العام 2014، وأولئك الذين شرعوا في طريق العنف وإراقة الدماء والخروج على القانون لم ولن يعترفوا بأي حل آخر لقضية الدونباس، باستثناء الحل العسكري.
    بهذا الصدد، أرى أنه من الضروري اتخاذ قرار طال انتظاره للاعتراف الفوري باستقلال وسيادة جمهورية دونيتسك وجمهورية لوغانسك الشعبيتين.
    وأطلب من الجمعية الفدرالية الروسية دعم هذا القرار، ثم المصادقة على معاهدة الصداقة والدعم المتبادل مع الجمهوريتين. سيتم إعداد هاتين الوثيقتين والتوقيع عليهما في المستقبل القريب جداً.
    ومن أولئك الذين استولوا على السلطة في كييف، نطالب بالوقف الفوري للأعمال العدائية. وإلا فالمسؤولية الكاملة عن استمرار إراقة الدماء ستقع بالكامل على ضمير النظام الحاكم في الأراضي الأوكرانية.
    بإعلاني عن القرارات المتخذة اليوم، أنا على يقين من دعم مواطني روسيا، وجميع القوى الوطنية في البلاد.
    أشكر لكم اهتمامكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.